الحرب فى غزة هى عرض للقضية الفلسطينية. التركيز فى الوقت الحالى على الحرب لأنها وحشية راح ضحيتها قرابة الخمسة عشر ألفا من الأهالى بخلاف عشرات الآلاف من الجرحى، غير المليونين ونصف المليون الذين عانوا من نقص الغذاء والدواء والوقود، ومن الترحيل إن كانوا من سكان شمال القطاع. فى خطاب الحكومة الإسرائيلية أن الحرب المتواصلة التى تشنها منذ سبعة أسابيع هى ردها على عملية السابع من أكتوبر وأنها، بها، تهدف إلى القضاء التام على «حماس» حتى لا يمكن لهذه الأخيرة أن تهددها فى يوم قادم بأى شكل من الأشكال. فى هذا الخطاب أيضا أن إسرائيل ستعود إلى تولى المسئولية عن الأمن فى غزة، أى أنها ستعود إلى احتلالها. إلى هذا الخطاب الرسمى، يمكنك أن تضيف تصريحات صادرة عن أعضاء فى الحكومة أو عن غيرهم يشاركونها فى تفكيرها، منها ما يدعو إلى تسوية غزة بأكملها بالأرض، ومنها ما يدعو إلى إخلائها من جميع سكانها وتهجيرهم إلى مصر، ومنها ما يدعو إلى إلقاء قنبلة ذرية على غزة، ومنها ما يدعو إلى العودة إلى استيطانها وبناء المستعمرات فيها.
هذا الخطاب وهذه التصريحات تكشف عن تفكير القائمين على النظام السياسى الإسرائيلى، تفكير لم يعتمد إلا القوة وحدها فى التعامل مع غزة فى السنوات الخمس عشرة الأخيرة. الغريب فى الأمر أن ممارسة القوة مع سكان غزة مرة أولى وثانية وثالثة ورابعة لم تؤت أثرا ولا هى أخمدت روح المقاومة فيهم. ومع ذلك لا تلجأ إسرائيل إلى غير القوة، وهى تمعن فى استخدامها وكأنما الإصرار على الإمعان فى حد ذاته سيحقق لها ما تريد. القائمون على النظام السياسى الإسرائيلى متمسكون بتفكيرهم لا يريدون تغيير شىء فيه رغم وهنه وفشله البينين.
إسرائيل تبرر الحرب بأنها لاستعادة شعورها بالأمن الذى تعرض «لاعتداء وحشى فلسطينى» يوم السابع من أكتوبر. هى لا تريد أن تعترف بأن عملية السابع من أكتوبر هى مقاومة لإغلاقها لقطاع غزة على سكانه ولظروف الحياة التى فرضتها عليهم. إسرائيل تريد تحقيق أمنها وأمن مواطنيها بإخضاع الشعب الفلسطينى فى غزة لكامل إرادتها وبإنكار أى حق له فى أن تكون له إرادته المستقلة. هذا الفرض وهذا الإنكار لا يمكن أن ينجحا، وإسرائيل لم يخطر على بالها إعادة النظر فيهما. منهج الإخضاع نفسه تتبعه إسرائيل فى الضفة الغربية المحتلة. فى الضفة هو إخضاع لفكر صهيونى يتزايد اقتطاعه للأرض الفلسطينية واستعمارها الاستيطانى، وهو إخضاع لإرهاب المستوطنين العازمين على عدم التوقف عن إقامة المستوطنات وعن التوسع فى تلك الموجودة فعلا منها، يساعدهم على ذلك ويشجعهم وصول ممثليهم إلى قلب النظام السياسى الإسرائيلى، سواء فى السلطة التنفيذية، أى الحكومة، أو التشريعية، أى الكنيست، وهم ممثلون عازمون على استخدام السلطة القضائية كذلك فى تحقيق توسعهم الاستيطانى وسيطرتهم التامة على الشعب الفلسطينى. ما يعتمل من وحشية فى غزة، وفى الضفة الغربية أيضا، هو أبشع صيغ الصهيونية.
• • •
السؤال يثور عما إذا كانت هذه الصيغة الأبشع هى التطور الطبيعى والحتمى لفكرة الصهيونية ذاتها أم أن هذا التطور مرض فيها يمكن علاجه. السؤال يثور لدى الفلسطينيين ولدى العرب عموما، وهو يثور بشكل متزايد فى العالم أجمع، بما فى ذلك فى مجتمعات الدول الأكثر تأييدا لإسرائيل، وهو لا بد أن يثور وبشكل علنى فى إسرائيل ذاتها. جوهر هذه الصيغة الأبشع للصهيونية هو الإخضاع. الاستيلاء على الأراضى الفلسطينية واستعمارها الاستيطانى ليسا إلا شكلا من أشكال الإخضاع. وبعد الشعب الفلسطينى، ألا يمكن أن يتمدد هذا الإخضاع شيئا فشيئا إلى المنطقة العربية المحيطة بأكملها؟
مصر والأردن فى هذه المنطقة العربية المحيطة عقدتا اتفاقيتى سلام مع إسرائيل كان الهدف منهما أن تنسحب إسرائيل من أراضيهما التى احتلتها، ولكن الاتفاقيتين تعنيان أيضا أن الدولتين مستعدتان للتعايش مع إسرائيل بعد أن كانتا ترفضانها منذ سنة 1948 وحتى سنة 1979 فى حالة مصر، وحتى سنة 1994 فى حالة الأردن. منظمة التحرير الفلسطينية بكافة مكوناتها اعترفت بإسرائيل فى سنة 1988، وهو ما يعنى استعدادها هى كذلك لأن تتعايش معها. غير أن التعايش شىء، والخضوع شىء آخر. الخضوع لا يمكن قبوله فهو رهن لمستقبل دول المنطقة وشعوبها لإرادة إسرائيل. وبالمناسبة، «حماس» ذاتها اعترفت ضمنيا بإسرائيل عندما قبلت فى سنة 2017 بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية فيما وراء الحدود القائمة فى 4 يونيو سنة 1967.
إلقاء قنبلة ذرية على غزة، وتسويتها بالأرض، ودفع سكانها قسرا إلى إخلائها والانتقال إلى مصر، وهو ما لا بد أن يتبعه دفع سكان الضفة الغربية إلى الانتقال إلى الأردن، والعودة إلى إنشاء المستعمرات فى القطاع، هى كلها تعبيرات عن العزم على إخضاع الشعب الفلسطينى ومصر والأردن للإرادة الإسرائيلية أولا، ثم عن الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية التوسعية والطاردة للسكان من أراضيهم ثانيا.
• • •
الفكرة القومية نشأت فى أوروبا فى القرن التاسع عشر، ولقد استلهمتها الحركة الصهيونية نفسها لإقامة دولة تحول دون استيعاب اليهود فى الدول القومية التى يعيشون فيها فيفقدون خصوصيتهم. هذه الفكرة انتشرت إلى المستعمرات الأوروبية، وبشكل أو بآخر كانت وراء إنشاء الدول القومية بعد استقلالها فى أثناء القرن العشرين، وخاصة إبان العملية الواسعة لتصفية الاستعمار نحو مطلع الستينيات من القرن الماضى. فى ظل هذه الفكرة القومية، لا يمكن أن يقبل أى شعب بألا يعبر عن ذاته فى ظل دولته القومية، أو الوطنية إن شئت. الدليل على ذلك أن جميع الشعوب التى كانت تعيش فى المستعمرات، بما فى ذلك تلك التى اتخذت شكل الأقاليم تحت الوصاية بعد نشأة الأمم المتحدة، وتلك التى كانت تحت الانتداب فى ظل عصبة الأمم، قد صارت دولا مستقلة قانونا، وإن تفاوتت فى فعلية استقلالها نتيجة لأحجام سكانها أو لعلاقات التبعية التى نشأت بينها وبين الدول التى كانت تخضع لوصايتها أو لانتدابها عليها. هذا ينطبق على الأقاليم الواقعة تحت الانتداب من الفئتين «باء» و«جيم» مثل تنجانيقا ورواندا وبوروندى وتوجو من الفئة «باء»، وناميبيا وجزر غينيا الجديدة وساموا ونورو من الفئة «جيم». من الفئة «ألف» استقلت سوريا ولبنان والعراق والأردن. الاستتثناء الوحيد هو فلسطين فى الوقت الذى اعتبر عهد عصبة الأمم فيه أن الأقاليم الواقعة فى الفئة «ألف» مؤهلة للاستقلال وأن الانتداب عليها ترتيب مؤقت حتى تصبح مستعدة تماما للاستقلال. استرجاع تاريخ الانتداب على فلسطين هو لبيان أن فلسطين كانت لها مقومات الدولة المستقلة فى سنة 1919، وأنها لم تكن أرضا مفتوحة يهجر شعبها لإخلاء المجال للاستعمار الاستيطانى فيها. كيف يمكن ألا يكافح الشعب الفلسطينى، كما كافحت شعوب أخرى، من أجل استقلاله فى دولته القومية؟ وكيف يمكن أن يقبل بما تنزله إسرائيل به؟
الفلسطينيون هم الذين يحتاجون إلى الأمن أولا، الأمن من الآلة العسكرية الإسرائيلية، ومن المستوطنين، ومن الاستيلاء على أراضيهم، ومن هدم منازلهم، ومن الجور على مياههم، ومن غير ذلك من أشكال التعسف الناتج عن الاختلال الهائل فى ميزان القوة لصالح إسرائيل، اختلال أنشأته الولايات المتحدة ولم تخدم به إسرائيل وأضرت بالمنطقة. الأمن للفلسطينيين، والعدالة لهم، العدالة فى الحقوق والموارد التى تمكنهم من العيش بكرامة، والاعتراف بحقهم فى تقرير المصير، هى الأدوات التى توفر الأمن لإسرائيل ولمواطنيها. يجدر بإسرائيل أن تجرب استخدام هذه الأدوات بديلا عن القوة التى لم تلجأ إلى سواها حتى الآن.
على أصدقاء إسرائيل أن يدفعوها أولا إلى وقف إطلاق النار غير محدد المدة فى غزة. وثانيا، عليهم أن يدفعوها إلى استخدام أدوات التعايش من أجل إنشاء البيئة اللازمة لأمنها ولأمن الشعب الفلسطينى والدول العربية المحيطة بها، ولإيجاد ظروف التنمية الاقتصادية والاجتماعية الضرورية لهذه الدول ولشعوبها. إنشاء البيئة اللازمة واستخدام أدوات التعايش سيكونان بالضرورة موضوعا للتفاوض. لا يمكن لطرف فى التفاوض أن يحدد الطرف المقابل الذى يتفاوض معه. للشعب الفلسطينى أن يحدد من يتحدث باسمه، والمسئولية عن الشعب الفلسطينى ستفرض على منظماته التوصل إلى تمثيل مسئول شرعى له إن وجدت فرصة حقيقية محددة للحصول على حقوقه من خلال التفاوض. ولكى يكون للتفاوض أى فرصة للنجاح الحقيقى، لا يمكن بأى شكل من الأشكال استبعاد الأطراف المؤثرة على الأرض منه، ومن بينها وبطبيعة الحال «حماس».
على أى حال، إن كانت إسرائيل ومؤيدوها يريدون استبعاد «حماس» من أى تفاوض، فإن للشعب الفلسطينى بدوره أن يصر على استبعاد ممثلى الاتجاهات الإسرائيلية التى تدعو إلى التوسع الاستعمارى الاستيطانى على حسابهم وإلى تهجيرهم قسريا، وتعمل فعليا على تحقيقهما. هذا الاستبعاد سيكون فى مصلحة إسرائيل ذاتها.
على إسرائيل أن تمكن الشعب الفلسطينى من حقوقه وأن تثبت استعدادها للتعايش معه. هذا هو الطريق إلى الأمن والسلام لكافة دول المنطقة وشعوبها.