المنظومة الوطنية للدواء كأى منظومة كبرى ــ معقدة التكوين ــ تكون عرضة لتغييرات رئيسية إذا ما وصلت أحوالها إلى حافة الفوضى أو إلى وضعية «كش ملك». التغييرات التى تحدث فى خِضَمِّ ملابسات الفوضى أو «كش ملك» ليست بالضرورة تغييرات إيجابية، حيث قد تكون سلبية الاتجاه حاملة لمخاطر رئيسية وممنهجة.
من أهم التوجهات السلبية والمخاطر التى تتعرض لها المنظومة الوطنية للدواء ما يجرى السعى إليه حاليا من إنشاء ما يسمى بهيئة الدواء المصرية، وكذلك ما قد بدأ يطرأ من مطالبات بضرورة تحرير سعر الدواء.
1ــ مشروع هيئة الدواء المصرية:
حاليا، يُعرض على البرلمان مشروع قرار بقانون إنشاء هيئة الدواء المصرية. ثلاثة أسباب تدفع إلى ضرورة تجنب هذا المشروع:
• عدم صحة الترويج الحالى عن غيبة مثل هذه الهيئة.
• اختفاء الجدة فى مهام ومكونات المشروع المقدم مقارنة بما هو قائم.
• ابتعاد المشروع المقدم عن أى مستحدثات منظومية، سياسية واستراتيجية وتقنية، تفرض الأوضاع القائمة الحاجة الأساسية إليها.
أما عن التفاصيل، فالترويج لهذه الهيئة يرتكز على الادعاء بأنها تختص بالرقابة على الدواء، وأن مصر لا يوجد بها كيان للرقابة على الدواء، وأن ذلك لا يصح باعتبار أن دولا أخرى، مثل الأردن والسعودية، تملك هيئة وطنية للدواء تقوم بالرقابة عليه، بل إن سر تقدم الأردن فى التصدير هو وجود هيئة الدواء الأردنية، والتى يوجد أيضا مثيل سعودى لها، بمسمى هيئة الدواء السعودية.
الحقيقة أن هذا الترويج لا يستند إلى أى حقيقة، حيث فى مصر كيان رقابى دوائى عملاق هو الهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية (نودكار). لقد تشكلت نودكار بهذا المسمى عام 1976 من خلال توحيد كيانين دوائيين رقابيين قوميين، وهما معامل الرقابة الدوائية بوزارة الصحة (والتى نشأت عام 1955) ومركز الأبحاث والرقابة الدوائية بمؤسسة الأدوية (والذى تأسس عام 1963).
أى أن الرقابة الدوائية القومية فى مصر قد وُلدت قبل الكيانات المماثلة فى البلدان الشقيقة بعقود، بل وكانت الأُولى على مستوى الدول النامية.
هذا، مع العلم بأنه يوجد إلى جانب الكيان العملاق «نودكار» كيانين آخرين شقيقين مكملين، وهما هيئة الرقابة على الأمصال واللقاحات، والإدارة المركزية للصيدلة.
وإذا كانت مسميات جهازى الرقابة الدوائية فى الأردن والسعودية قد صممت لتكون تقريبا على نفس نمط مسمى الجهاز المناظر فى الولايات المتحدة (FDA) Food and Drug Amonistration، حيث الاسم فى الأردن هو (JFDA) Jordanian Food and Drug Authority، وفى السعودية على نفس المنوال (SFDA)، فليس هناك ما يستوجب أن نتبع نحن فى مصر نفس النمط بالتحول إلى اسم «هيئة الدواء المصرية» Egyptian Drug Authority وذلك ليكون اسمها المختصر بالإنجليزية EDA، وحتى يصبح على غرار JFDA وSFDA، كما فى الشقيقتين الأردن والسعودية على الترتيب.
الواقع أن طريقة تسمية هذا الكيان تتباين وتتغير من دولة إلى أخرى. مثلا، فى ألمانيا يسمى «المعهد الاتحادى للأدوية والمستلزمات الطبية»، وفى الباكستان «هيئة الرقابة على الأدوية»، وفى ماليزيا«الديوان القومى للرقابة على المواد الصيدلية»، وفى جنوب إفريقيا «مجلس الرقابة الدوائية»، وفى بولندا «معهد الدواء».
أما عن السر بشأن تقدم الأردن على مصر فى الصادرات الدوائية فهو لا يعود أبدا إلى وجود هيئة دواء أردنية، والتى يُعد وجودها أمرا طبيعيا. إنه يرجع إلى أن الصناعة الدوائية الأردنية، على الرغم من حداثتها مقارنة بشقيقتها الكبرى المصرية، تملك حمية أعلى فى التطوير، وهى فى ذلك لا تنتظر لتضطر للتطوير كرد فعل على أزمة طارئة (مثل أزمة رفض إثيوبيا لأدوية مصرية فى الصيف الماضى). إضافة إلى ذلك فالشركات الأردنية لديها طموحات وممارسات عالية الكفاءة فى التسويق. ذلك فضلا عن اهتمام عميق لبعض الشركات الأردنية بالبحث العلمى والتطوير، الأمر الذى يقابله لامبالاة من الشركات المصرية.
وأما عن المشروع المقدم، طبقا لما جاء فى مواده، فهو لا يضيف أى جديد بخصوص المهام والأهداف والتقنيات والعلاقات، عما تقوم به الهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية ورفيقتيها (هيئة الرقابة على الأمصال واللقاحات والإدارة المركزية للصيدلة).
لقد تضمنت مواد المشروع المقدم أمورا شكلية ولا تتعلق أبدا بالسياسات أوالاستراتيجيات؛ حيث انشغلت ببيروقراطيات تبعية ونقل الكيانات الدوائية الحكومية القائمة بالفعل إلى الهيئة المقترحة ونوعية مؤهل البكالوريوس الجامعى لرئيسها، والتبعية المباشرة لرئيس مجلس الوزراء.
المادة الوحيدة التى تضيف جديد هى تلك التى يقول نصها:«تُخصص للهيئة مساحة لا تقل عن خمسين فدان بإحدى المدن الجديدة بالقاهرة الكبرى (مثل مدينة بدر أو غيرها) لإقامة المنشآت اللازمة لتحقيق أهدافها».
وهكذا.. الهيئة المقترحة ليست إلا محاولة لتقليد شكلى لكيانات أصغر نشأت أخيرا فى بلدان شقيقة. وأما فى الموضوع فهذه الهيئة لا تمثل إلا استحواذا لكيانات دوائية، رقابية وبحثية، أصيلة وعريقة وقائمة.
وبينما هذا الاستحواذ لا يقدم جديد من المهام الفعلية عما هو قائم، إلا أنه يؤدى عمليا إلى إهدار مكثف لوقت وجهد ومال، سواء فى وضع نظام إدارى ومالى خاص لكيانات متباينة فى أنظمتها الإدارية والمالية، أو فى الحصول على قطعة أرض تزيد على 50 فدانا، وإقامة منشآت جديدة عليها... إلخ.
وكأن فى مصر فوائض فى المال والزمن للإنفاق هباء على إقامة وتشييد ما هو قائم بالفعل.
وأما مسألة تبعية هذه الهيئة إلى رئيس الوزراء مباشرة، فهذا أمر غريب، حيث فى جميع بلدان العالم لا تتبع هيئات الدواء غير وزارة الصحة، لا فى الولايات المتحدة أو الأردن أو إنجلترا أو اليابان أو أى بلد آخر (وذلك فيما عدا حالات فردية تماما لا تمثل توجها بأى قدر).
المشروع المقدم ــ إذن ــ ليس إلا طموحا استحواذيا سواء على الكيانات الدوائية الحكومية الموجودة أو على علاقة سلطوية مباشرة برئيس الوزراء. هذا بينما هو لم يتطرق إلى أية صياغات أو رؤى أو تنويهات تتعلق بتطوير السياسة الدوائية الخاصة بإتاحة الدواء للمرضى أو بتطوير صناعة الدواء.
هذا وتجدر هنا الإشارة إلى أن تقدم الكيانات وتحقيقها لمهامها ــ سواء هى دوائية أو غير دوائية ــ يتوقف أولا وأخيرا وقبل وبعد المسميات على الاعتبارات المنظومية. وذلك كالبيئة المنظومية العامة وأنواع القيم والمبادئ والعلاقات المعلنة وغير المعلنة. تلك التى تتحكم فى حركيات وأنشطة ومستقبليات المنظومة.
***
2 ــ مسألة تحرير الدواء من التسعير:
فى هذا الخصوص يمكن الإشارة إلى ثلاثة أمور. أولا، أن الدواء فى جميع بلدان العالم، خاصة فى البلدان المتقدمة، يخضع لأنظمة صارمة للتسعير. وثانيا، أن التسعير تتعدد آلياته، والتى يرتبط فى جزء منها بمنظومات الرعاية الصحية (التأمين الصحى وصناديق العلاج... إلخ).
وأما الأمر الثالث فهو أن الدولة الكبرى الوحيدة التى تشهد قدرا كبيرا من تحرير الدواء من التسعير هى الولايات المتحدة، وبالتالى فإن نسبة هائلة من مواطنيها يعانون من ارتفاع تكلفة الدواء.
هذه الظاهرة نجمت عن هيمنة كبرى للشركات الأمريكية متعديات الجنسية (والمعروفة بدورها فى انتخابات الرئاسة).
فى مجابهة ذلك شهدت بعض الولايات الأمريكية رفضا حادا للموقف المضاد للتسعير من جانب الشركات. لقد وصل هذا الرفض إلى حد المطالبة بإجبار الشركات على ممارسة الـ«استربتيز»، وذلك بتعرية اقتصادياتها ومالياتها فيما يتعلق بما تدعيه من الارتفاع الهائل فى تكلفة الأبحاث.
أيضا استصدر الكونجرس أخيرا قرارا يكفل للصيادلة استيراد الأدوية من كندا، حيث الأسعار أقل بكثير.
وهكذا، المطالبة فى مصر بتحرير الدواء من التسعير تصبح تصرفا شاذا تماما، مقارنة بما يسود العالم، ولا يتلاءم مع الدواء كسلعة من نوع خاص.
أمر آخر، أن الشركات المصرية ليس لها أى مبرر ــولو خيالىــ يجيز لها المطالبة بتحرير التسعير، فهى لا تقوم بأبحاث للتوصل إلى مادة دوائية جديدة.
سبب آخر يدفع البعض إلى المطالبة برفع الأسعار، وهو أن تصدير الدواء المصرى يكون بنفس سعره فى السوق المصرية نظرا لشروط الدول المستوردة والتى تقتضى شراء الدواء بنفس سعره فى بلد المنشأ (أى مصر)، حيث الأسعار تكون عادة منخفضة عن الأسواق الأخرى.
حل هذه الإشكالية يتطلب قدر من الإبداع التسويقى، وذلك دون الحاجة إلى تحرير التسعيرة. إنه موضوع يحتاج فى تناوله إلى مقام منفصل.
من ناحية أخرى، بعض القائمين على الصناعة يطالبون بتثبيت أسعار المستحضرات المثيلة (وتسمى Generics والتى هى بنفس كفاءة المستحضر الأجنبى الأم «صاحب براءة الاختراع») بحيث تباع بسعر يقل عن ثمن الدواء الأم فقط بقدر 20%.
الحقيقة أن أسعار المستحضرات المثيلة يمكن أن تنخفض بأكثر من 20% مقارنة بالمستحضر الأجنبى الأم. العبرة هنا تكمن فى التكاليف الواقعية. فى نفس الوقت لا يوجد مبرر لتثبيت أسعار المستحضرات المثيلة، حيث يُفترض وجود تنافسا فى الأسعار لصالح النظام الدوائى ولصالح المستهلك. أيضا يمكن وضع سقف لسعر المستحضرات المثيلة، وتكون للشركات حرية تحديد السعر الذى تراه عند أو تحت هذا السقف. هذا، ومن المناسب تخفيض السعر تدريجيا بالتوافق مع ما يطرأ على تكاليف المدخلات (خاصة المواد الخام) من انخفاض.
***
وهكذا، استنهاض الشأن الدوائى المصرى يحتاج إلى صناعة لسياسات واستيراتيجيات وابتكارات وطنية National، وليس إلى تغييرات فى الشكل وفى التبعية. إنها مسألة جديرة بتناول منفصل.