تعود السوريون على لغة إعلامية رسمية خشبية مليئة بالمبالغات اللفظية والانتهاكات الصارخة لأبسط حقوق الحصول على المعلومة. وتندّروا بعباراتها التى أضحت ملح الحديث الساخر الذى حمى أعصابهم من الانهيار لكل هذا الوقت. فكان اللجوء الدائم، قبل بروز الفضائيات، إلى الإذاعات الأجنبية (المغرضة؟) التى تبث بالعربية لكى يعرف السورى ماذا يحل فى بلاده وما حولها. ومن ثم انتقلوا إلى مشاهدة الفضائيات الإخبارية التى أتتهم بلغة جديدة، وإن كانت غنية بالتعابير الجوفاء، ولكنها أقل اهتراء ونفاقا وكذبا من إعلامهم.
لمعالجة هذا الأمر، تفتقت أذهان الحاكم إلى ضرورة إنشاء إعلام خاص يجارون به تطورات المجال الإعلامى، فكان الخاص أشد بؤسا من العام وأقل مهنية وأكثر تملقا وأغنى كذبا. فخرج السورى من السىء إلى الأسوأ، وظل الحرمان من الحد الأدنى من الحق فى التعبير وفى المعرفة هو القاعدة.
•••
مع اندلاع الاحتجاجات فى سوريا التى تمخضت عن مسارٍ ثورى، وعلى عكس الثورات فى تونس ومصر، ساد التعتيم الإعلامى منذ البدء وتم منع كل الصحفيين الأجانب والعرب من تغطية مجرياته. وأدى هذا إلى ضبابية لدى الملاحظين الخارجيين على الرغم من وضوح الأمر بالنسبة للسوريين المعنيين مباشرة بأسباب الانتفاضة وبتطورات الأحداث وبمآلات الثورة.
وقد احتكر الإعلام السورى، إضافة إلى الإعلام الصديق (الروسى والإيرانى) وبعض الشقيق (اللبنانى)، تغطية الأحداث، وأضحى الإعلاميون الغربيون (الإمبرياليون) والعرب (المتواطئون على نظام المقاومة والممانعة)، أهدافا محتملة وسقط منهم ضحايا كثر. وجرت الأحداث فى جلسة مغلقة بين الأصحاب. وقد تم استثناء بعض الصحفيين الغربيين الذين استمالتهم انتماءاتهم الإيديولوجية (كما روبيرت فيسك مثلا) ليكونوا شهود الظلام.
•••
إضافة، برز تيار من الإعلاميين من العرب والعجم، الذين تميزوا بعنصرية رفيعة أو بدفاعاتهم عن هتلر وإنجازاته، أو بتمتعهم بقسائم صدام حسين النفطية، أو بعطايا القذافى المتنوعة. والجامع المشترك فيما بينهم، هو الصورة المعلقة فى جدران مخابئهم والتى تجمعهم بأحد الطغاة.
بالمقابل، قام البعض بتغطية ادعوا أنها متوازنة، فذهبوا إلى الطرف الآخر من مشهد الجلاد والضحية وأعطوه الكلام، فسقطت الحيادية وبرز التحيّز الذى قيل بأن له علاقة بصفقات أمنية مشبوهة، كما حصل مع برنامج وثائقى بثته البى بى سى العربية والذى وضح فيه للأعمى مدى انعدام المهنية فيه.
•••
فى أتون هذه المعركة الإعلامية، سطع نجم الصحفى/المواطن الذى شعر بالحاجة إلى الإخبار عما يحصل وتسليط الضوء والصورة على الوقائع اليومية. من دون إمكانيات أو مهارات تذكر، سعى هؤلاء الشباب إلى القيام بدور إعلامى أرادوه مثمرا وكان هو الوحيد الذى استطاع نقل جزءٍ من المشهد غيّبته كل وسائل الإعلام. وعلى الرغم من الحماسة التى دفعت أحيانا إلى المبالغة، تشير هذه الممارسة إلى ظاهرة جديدة انبثقت عن الثورة وتستحق الدراسة والتقدير. ومن المؤكد بأن أبناء مدرسة الحياة هذه سيكونون نواة الإعلام السورى الجديد فى مستقبل لناظره قريب.
نائب مدير مبادرة الإصلاح العربى