رغم أهمية الاقتصاد البالغة، ودوره الحاسم فى حسم اختيارات المصريين لصالح الثورة، يبقى هو بامتياز الجبهة الأقل تقدما فى العام الماضى. فلم تتخذ حكومات المجلس العسكرى المتعاقبة قرارا ذا شأن للتعامل مع الوضع الاقتصادى واكتفت جميعها بالاعتراف بضرورة بعض الخطوات التى يبدو أن عليها إجماعا قبل ان تتوقف دون اعلان الأسباب. وبينما لا نكاد لا نتذكر قرارا اقتصاديا يستحق الوصف، تمطرنا آلة الدعاية الحكومية بنعيق الخراب الحالّ، والافلاس الذى يقرع الأبواب.
أما ساحة النقاش العام فهى مؤممة لشئون أخرى ليس من بينها الاقتصاد وسبل عيش المصريين. تنعقد لجان المائة، والخمسين، والمجالس الاستشارية والتوافقية، ومناظرات الأحزاب وتنبنى الكتل السياسية والانتخابية وتنحل على خلفية المادة الثانية من الدستور أو الموقف من المجلس الرئاسى المدنى..إلخ. ولا مكان للعدالة الاجتماعية إلا بالشعارات العامة الفارغة من العمق العملى، أو بالتصريحات التليفزيونية من نوعية أخجل من نفسى عندما أرى الفقر، مع التحذير من أن حياة الأقلية المصرية المرفهة مهددة (والعياذ بالله) بـ«ثورة جياع».
من يحكم مصر؟
عندما بدأ تقديم مشروع توريث جمال مبارك حكم مصر اعتمدت آلة الدعاية التى تبنى التحالف الجديد لدعمه على مقولات رئيسية منها أن من كانوا يتحكمون فى مقاليد الحكم قبل ظهوره كانوا يفتقرون للكفاءة فى إدارة الاقتصاد. بنى هؤلاء أرضيتهم الطبقية والاجتماعية فى مواجهة بيروقراطية الدولة/الحزب القديمة على أن اقتصادنا ليس رأسماليا بما يكفى وأن تحريره كان ضروريا لتتطور رأسماليتنا وتنافسيتها، ومعها ستجيء حريات لم يكن الأب قادرا على توفيرها. وكانت السنوات من يوليو ٢٠٠٤ وحتى يناير ٢٠١١ كافية ليعرف المصريون المعنى الحقيقى لهذا المشروع فى حكم مصر.
والآن هناك من يحاول إقناعنا أن التوريث كان شأنا سياسيا بحتا، وأنه بانزياح هذا المشروع، فإن القضية تتوقف عند إزاحة الفساد المالى الفج الذى صاحبه كعربون تحالف مع رجال الأعمال. ولا يختلف فى هذا المجلس العسكرى فى الحقيقة مع العديد من غرمائه فى شئون السياسة من مرشحين رئاسيين وأحزاب ليبرالية وإسلامية.
لم يكن التوريث فى الحقيقة شأنا سياسيا بحتا من شئون القصر ولا طموحا شخصيا خالصا. التوريث كان مشروعا اجتماعيا بالغ القسوة والعمق. لقد تبنت حكومات نظيف ومن ورائها التحالف الجديد الذى اختار جمال مبارك فى الحقيقة كعنوان له وليس العكس سياسات غيرت مصر، كانت بالمناسبة تحوز ثناء واعجاب المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية الكبرى. هذا التحالف الجديد رسخ أقدامه بإعادة توزيع ثروة البلاد لصالح شريحة من رجال الأعمال، خالقة معها طبقة جديدة من المهنيين والموظفين ممن يخشون الآن، ولهم كل الحق فى ذلك، ما يسمى بثورة الجياع. سيطرت طبقة الحكم تلك على مقاليد الأمور فى كل درب من دروب الاقتصاد الأساسية باحتكارات وتحالفات أو حتى بوضعية المنتج الكبير المؤثر. فرض هذا التحالف تصوراته ومصالحه الاجتماعية والسياسية حتى فيما يتعلق بدور مصر الاقليمى (وإلا كيف نفهم اتفاقيات الكويز وتصدير الغاز وتحرير التجارة الطوعى؟).
سقط جمال مبارك إذا.. لكن مشروعه حى وقاعدته الاجتماعية حية ومسيطرة. فسمعنا عن محتكر يدخل السجن وتواصل شركته خارجها ممارساتها الاحتكارية، ولم نسمع عن خطوة واحدة ولا تصور واضح متكامل عن كيفية مواجهة هذا المشروع السياسى الاجتماعى المتمكن من شرايين البلاد ولا حتى عن الاستقواء فى مواجهته بالقوة الوحيدة صاحبة المصلحة والقدرة فى ذلك: العمال والفلاحون والموظفون، الذين يتركون وحدهم بلا نصير على خط نار استكمال الثورة حقا لتحرير البلاد من مشروع التوريث.
ضيق الأفق وضيق المصلحة
عندما تقف الغالبية العظمى من أحزاب ما بعد الثورة ومسئولى ما بعد الثورة ومرشحى رئاسة مابعد الثورة لتتحدث عن أن أولوية بلادنا الآن هى تحجيم عجز الموازنة، يتبادر السؤال الميلودرامى إلى الذهن: ولماذا ذهب يوسف بطرس غالي؟ هذا هو مشروعه وهذا فكره. ويزيد الأمر سوءا إذا وسعنا نظرتنا للعالم فنرى شبه إجماع بين اقتصاديين من نوعية بول كروجمان وروبرت سكيدلكى وروبرت شيللر وجوزيف سيتجليتز وحتى محمد العريان، الاقتصادى المصرى الذى يدير أحد أكبر صناديق الاستثمار فى العالم، على أن خطط التقشف التى تواصل اعطاء الأولوية لتقليص عجز الموازنة (مخفية فى ذلك انحيازا اجتماعيا صارخا لصالح الشركات الكبرى ورجال الأعمال على حساب الطلبة والعمال والموظفين الذين عليهم العمل أكثر وتقاضى أجورا أقل والتكيف مع تقليص الخدمات العامة) كارثية وقد تودى بالرأسمالية كنظام للهاوية.
وعندنا، هل تسمع مرشحا رئاسيا يتحدث عن كارثية موازنة التقشف التى تطبق حاليا؟ وفى بلد قامت فيها ثورة قامت (الحقيقة أقول لكم وإن كانت صادمة) على أكتاف فقراء وجوعى؟ هل سمعنا عن معركة سياسية تستحق الاسم من أى من رموز العمل السياسى فى هذا الإطار؟
هذا ليس فقط ناتجا من عدم كفاءة من خبرائنا الاقتصاديين ومسئولى الدولة لدينا أو ضيق أفقهم فى قضايا الاقتصاد. فكل خطوة فى اتجاه العدالة الاجتماعية، وإن كانت قصيرة وبسيطة، تفرض معركة. هكذا رأينا الغبار الكثيف المتعلق بالمعونة الاقتصادية وسيادة قرارنا الاقتصادى، من أناس يدافعون بأيديهم وأسنانهم فى برنامجهم ودعايتهم عما لا تحلم المعونة بفرضه من شروط اقتصادية تتعلق بتحجيم الانفاق العام واعطاء الاولوية للتصدير وفتح الاسواق وجذب الاستثمار الأجنبى.
نفس الشيء ينطبق على الضريبة العقارية. فهاهى مقاومة المضاربين فى العقارات وأباطرة الفساد من الصحفيين الكبار، ونواب مجلس الشعب وغيرهم من الراغبين فى اخفاء ما يملكون لأنهم لا يملكون تفسيرا شرعيا له، تنتصر فى مواجهة هذا القانون العادل البسيط، وتجرده من أنيابه بإعفاء المسكن الأول، بحسب ما أعلنته الحكومة قبل أيام. وهو ما سيجعل تطبيقه مستحيلا. (القانون يفرض ضرائب لأول مرة على الاستثمارات العقارية السفيهة فى الساحل الشمالى والمجمعات السكنية الفاخرة المبنية بموارد البلاد الشحيحة بغرض الاتجار والمضاربة أساسا ويجلب لميزانية الدولة مليارات تحتاجها للانفاق على التعليم والصحة والمواصلات).
من هنا يصير المشهد السياسى مفهوما وطبيعيا إذ أنه مكبل بضيق المصالح التى تحكم. وإذا لم نخض مواجهة مع حكام مصر المسيطرين عليها غيلة من ساحة الاقتصاد، هؤلاء الذين يستمر كل شىء لحساب مصالحهم من وراء الستار، كيف يمكن أن نحصل على تغيير ديمقراطى حقيقي؟ كيف يمكن أن ينفتح الأفق لتداول سلمى للسلطة؟ كيف نكتب دستورا يعبر عن المصريين حقا؟ وكيف نبنى مصرا للمصريين وليس لأرباح الشركات الكبرى؟
هذه المواجهة يجب أن تنطوى على شيئين لا بديل عنهما: أولهما، مشروع اجتماعى اقتصادى سياسى بديل يقوم على مصالح الغالبية ويستند للاستنتاجات الخطيرة لتطور الرأسمالية العالمية فى السنوات القليلة الماضية. أما الشىء الثانى، فهو الاستناد على القوة الوحيدة التى يمكن أن تدفع بديمقراطية بلادنا وسياساتها أبعد مما يتخيل أحد: أغلبية سكان بلادنا أصحاب الحق الأصلى فيها وفى ثروتها، والذين يخوضون بالفعل معركة تحرير مصر من المشروع السياسى لجمال مبارك. لا أمل فى السياسة دون الاقتصاد يا سادة، ولذلك تسبب الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات الاجتماعية هذا الرعب المقيم لحكامنا.