هناك فارق جوهرى فى توصيف الأدوار التى حكمت قصة صعود وغروب الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» بين ما هو عسكرى وما هو سياسى.
الخلط بين الأدوار لا يساعد على أية قراءة موضوعية تلم بحقيقة القصة وخلفياتها، التى لم تبح بكامل أسرارها حتى الآن.
ما هو عسكرى يرتبط بدوره فى حرب أكتوبر (1973) كقائد لسلاح الطيران، هذا ما لا ينبغى إنكاره عليه بأية ذريعة.
وما هو سياسى تلخصه الأسباب التى أفضت إلى إطاحته من الحكم بتظاهرات مليونية لم يكن ممكنا تحديها فى «يناير» (2011).
التاريخ لا يكتب على الهوى، أو بمقتضى الأحوال المتغيرة.
صعد لموقعه العسكرى باعتبارات انضباطه وكفاءته فى ظروف ما بعد نكسة يونيو (1967) وبلغ دوره ذروته يوم (14) أكتوبر (1973) فى معركة المنصورة الجوية، التى تعد واحدة من ملاحم أكتوبر.
قبل أربعة شهور اختار «مبارك» هذا التاريخ ليطل على المصريين لآخر مرة مسجلا شهادته عن الحرب فى مقطع فيديو عبر منصة «يوتيوب».
أراد أن يذكر بدوره فى «أكتوبر» ويسجل روايته للأحداث والوقائع التى عاينها من موقعه.
وهذا حق مكفول لكل الذين لعبوا أدوارا فى ميادين القتال، أو على مسارح السياسة حتى يستوفى التاريخ رواياته قبل أن يخضعها للبحث والتقصى والتدقيق وفق المناهج المستقرة.
لكل دور سياقه وطبيعته وحدوده التى لا يصح تجاوزها وإلا فإنها تسحب بغير حق من أدوار القيادات الأخرى.
على مدى سنوات طويلة اختزلت حرب أكتوبر دعائيا فى رجلين: «أنور السادات» بطل الحرب والسلام، ثم «حسنى مبارك» بطل الضربة الجوية الأولى.
كان ذلك إجحافا بالقادة العسكريين الذين خططوا ودربوا وقاتلوا، وبعضهم سيرته لامست الأساطير، كما كان إجحافا ببطولات الجنود الذين قدموا من قلب الحياة المصرية وضحوا بحياتهم حتى يرفع البلد رأسه.
فى ظهيرة السادس من أكتوبر عبرت القوات المسلحة المصرية باقتدار قناة السويس، ودمرت خط بارليف، وكسرت فى ساعات قليلة نظرية الأمن الإسرائيلى، وحطمت أسطورة أن جيش الدفاع الإسرائيلى لا يقهر.
فى تلك اللحظات الحاسمة كان البطل الحقيقى للحرب هو المواطن المصرى العادى، قاتل بضراوة عن اقتناع وإيمان بأنه يحارب معركة المصير، وأن النصر فيها يفتح صفحة جديدة تعطى أملا فى المستقبل، رابض فى خنادق القتال الأمامية ست سنوات كاملة، وأجل حياته الإنسانية وتلخصت أحلامه فى القتال والثأر، خاض خلالها حرب استنزاف طويلة، وعندما عاد من ساحات القتال وجد مصر أخرى غير تلك التى حارب من أجلها.
كانت تلك مفارقة كبرى فى تراجيديا أكتوبر وما بعدها.
فى الفيديو الأخير أشار «مبارك» بأكثر من موضع إلى اسم الفريق «سعد الدين الشاذلى»، رئيس أركان القوات المسلحة فى حرب أكتوبر، وهو ما لم يفعله أبدا طوال سنوات حكمه.
تبنى مجددا وجهة نظر «السادات» فى الثغرة دون أن يأت على ذكر فرية انهيار «الشاذلى».
أى شهادة ملك صاحبها والحقيقة حق البلد كله.
ما الذى حدث بالضبط موثقا ومدققا؟
هذه مسألة تستدعى إزاحة الستار عن الوثائق المحجوبة حتى يمكن التوصل إلى الحقيقة بما يحفظ سلامة الذاكرة الوطنية.
أسوأ ما جرى بعد ثورة «يناير» التى أطاحته أنه لم تجر مساءلة سياسية لعصره، ولا فتحت أية ملفات غامضة فى قصة صعوده حتى نهاية حكمه، لا تقصينا بالوثائق والشهادات أسباب اختياره نائبا للرئيس منتصف سبعينيات القرن الماضى دون غيره من قيادات حرب أكتوبر، رغم أنه لم يكن أبرزهم، ولا فحصنا سجله الطويل فى الحكم الذى تباينت تضاريسه ومراكز القوى فيه من مرحلة لأخرى، ولا أجبنا على سؤال: أين كانت الأخطاء الكبرى حتى لا تتكرر من جديد؟
بتراكم الأخطاء كان الانفجار مسألة وقت.
كان انسداد القنوات الاجتماعية أزمة مستحكمة، وانسداد القنوات السياسية أزمة مستحكمة ثانية، وكانت شيخوخة النظام أزمة ثالثة، وسيناريو «التوريث» فاقم الشعور العام بوطأتها.
كل الأزمات وجدت فى «التوريث المحتمل» البلورة التى تتجمع عندها ونقطة تفجير الوضع كله.
لأكثر من مرة جرت محاولات لتمرير ما يستحيل تمريره.
فى نوفمبر (٢٠٠٣) عجز الرئيس «حسنى مبارك» عن أن يكمل خطابه أمام مجلس الشعب بعد تعرضه لإغماءة استدعت قطع الإرسال التليفزيونى، الذى كان ينقل الحدث على الهواء مباشرة. لوهلة تصور «كمال الشاذلى»، بباعه الطويل فى السيطرة على النواب، أن بوسعه فى خمس دقائق حسم الفراغ المحتمل بالسلطة إذا انقضى أجل الرئيس، وأن يمرر فى لحظة عاطفية ترشيح نجله الأصغر لخلافته وطرح اسمه للاستفتاء الشعبى ـ وفق النص الدستورى الذى كان معمولا به فى ذلك الوقت.
غير أن الرئيس تجاوز أزمته الصحية وعاد لاستكمال خطابه خشية الظنون والتداعيات.
فات صاحب الرهان دلالة ما شهده مع زملائه من سيطرة كاملة للحرس الجمهورى على القاعة المضطربة، بعض الضباط قفزوا إليها من الدور الثانى، والجيش أعلن حالة الطوارئ القصوى وحلقت طائرات حربية فوق المكان.
لم يسمح لأحد من أركان الحكم بالدخول على الرئيس، الذى نقل إلى إحدى غرف المجلس، باستثناء وزير الدفاع المشير «محمد حسين طنطاوى»، والدكتور «حمدى السيد» نقيب الأطباء، الذى كان متواجدا بصفته عضوا بالمجلس وبقى المسئولون الكبار على الباب ينتظرون ما تجرى به المقادير.
كان ذلك اختبارا أول لمشروع «التوريث» لم تتجل فيه كامل الحقائق.
فى مارس (٢٠١٠) ـ قبل ثمانية شهور من «يناير» ـ أجرى الرئيس عملية جراحية مؤلمة فى «هايدلبرج» بألمانيا، وصفها هو نفسه بـ«العلقة الساخنة».
أثناء رحلة «هايدلبرج»، التى أحاطتها ظنون بعدم قدرته على الاضطلاع بمهامه، أطل من جديد سيناريو «التوريث» على المشهد المضطرب.
راجت تكهنات أن «مبارك» قد لا يجدد ولايته خريف العام التالى (٢٠١١) بدواعى حالته الصحية والتقدم فى العمر مخليا الطريق أمام نجله لوراثة مقعده.
لم يكن سرا أن القوات المسلحة تمانع فى نقل السلطة من الأب إلى الابن بالنظر إلى مواريثها منذ عام (١٩٥٢).
لم يكن «مبارك» مقتنعا ـ كرجل عسكرى يعرف كيف صعد إلى الرئاسة ـ بأن هناك فرصا لتمرير ذلك المشروع، لكنه لم يمانع فيه ولا اعترض عليه وترك الصراعات فى بنية نظامه تحتدم دون أى حسم.
تحلل النظام من داخله على نحو أوحى بأن النهايات تقترب.
كانت انتخابات مجلس الشعب عام (٢٠١٠)، التى زورت على نطاق واسع وأقصيت المعارضة بالكامل، تعبير أخير على أن كل شىء يوشك أن ينهار.
لم تكن «يناير» مؤامرة بقدر ما كانت تعبيرا عن حجم الغضب الشعبى على السياسات المتبعة، التى سحبت على المكشوف من أى رصيد سابق.
برحيل «مبارك» لم تغلق صفحته فى التاريخ، فالسجال حولها محتدم بين أنصار «يناير» وخصومها، وقد يمتد السجال لعقود مقبلة إذا لم توضع الحقائق كاملة أمام الرأى العام، تنشر الوثائق وتفتح الملفات بأكبر قدر من الشفافية، دون إنكار لحقيقة أو نفى لثورة.