ليس عندى دفاع عن مجمل الاختيارات السياسية للإخوان طوال العام الماضى، والتى اتسمت بالتخبط الاستراتيجى، فكانت سببا فى الانتقادات الحادة التى تتعرض لها الجماعة والحزب، غير أنى لا أرى فى هذه الاختيارات ما يصلح لتبرير حالة العداء الحاد، بل والتخوين أحيانا، المتصاعدة فى الفترة الأخيرة.
أما مظاهر القصور الاستراتيجى فأهمها عجز الجماعة عن بناء اصطفاف للقوى الوطنية على أساس ثورى يمكنها من تفكيك الدولة العميقة واستعادة السيادة للشعب، وهو عجز لا تتحمل الجماعة وحدها مسئوليته بطبيعة الحال، بيد أن مسئوليتها عنه أكبر من غيرها، باعتبارها الطرف السياسى الأكثر تنظيما وصاحب الأكثرية البرلمانية، وهو ما يحملها مسئوليات إضافية فى رأب الصدع وترتيب الأولويات.
وهذا العجز تبدى ــ مع نهاية المرحلة الانتقالية ــ فى ثلاثة ملفات رئيسة لم تستطع الجماعة المساهمة فى صناعة توافق بين القوى الوطنية حولها، أولها ملف الدستور والذى اختيرت جمعيته التأسيسية بتسرع غير مبرر فأنتج انسحابات متتالية وزاد البون بين أطياف الحركة الوطنية، وثانيها انتخابات الرئاسة والتى أدى تراجع الإخوان عن موقفهم السابق بعدم تقديم مرشح فيها لتنامى القلق لدى خصومهم السياسيين، وثالثها الحكومة والتى تأخر الإخوان كثيرا عن مطالب إقالتها لما كان ذلك مطلبا عاما، ثم لما أقدموا على سحب الثقة منها بدوا أكثر انشغالا بمصالحهم التنظيمية عن المصلحة العامة.
وأسباب هذا العجز عند الإخوان متعددة، أولها الطبيعة السياسية المحافظة للجماعة والتى أعجزتها عن التعامل مع اللحظة الثورية ودفعتها لاختيار الإصلاح حين وجب التغيير، كما كان الحال فى موقفها من المنظومة الأمنية والإعلامية على سبيل المثال، وثانيها اعتياد أغلب قيادات الجماعة العمل شبه السرى لا العمل العام، والأول من خصائصه تقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة كثيرا، والانشغال بالتنظيم وإدارته عن مقاصده أحيانا، والمركزية الشديدة فى اتخاذ القرار غالبا، وهو ما بدا فى اختيارات الجماعة لأعضاء الجمعية التأسيسية، وكذا لمرشحيها لبعض المناصب القيادية فى الدولة ــ والتى ظهر فيها تقديم أهل الثقة وأولى القربى بشكل أثار شبهات لم يكن هناك ما يدعو لها ابتداء، وكذلك فى آلية اتخاذ قرار تقديم مرشح للرئاسة، وطريقة تسمية المرشح، وطبيعة العلاقة بين الجماعة والحزب، والتى شهدت فى بدايتها محاولات من قبل الحزب للاستقلال لم تلبث عن تهاوت.
ثالث الأسباب تمكن العقل الإجرائى من الجماعة على حساب العقل الاستراتيجى، وتلك آفة يعانى منها إسلاميو مصر منذ عقود، إذ العقول الاستراتيجية وأصحاب الرؤى النقدية ليسوا مثقفين عضويين وإنما مستقلون على هامش الجماعة، وبالتالى فتأثيرهم محدود مقارنة بالتنظيميين القياديين، ورابعها أن مناخ الاستقطاب ــ السائد منذ سنة ــ يدفع الحركة فى اتجاه التترس التنظيمى لا التشارك، وهو ما بدا فى قرارات مقاطعة بعض المليونيات والأحداث الكبرى، وكذا فى الكثير من المواقف والتصريحات.
على أن هذه المشكلات لا تقتصر على الإخوان، فثمة مواقف للأطراف السياسية الأخرى تستوجب النقد والمراجعة، كقبول بعضهم ــ بل وسعيه ــ إشراك العسكر فى العملية السياسية لمدة تجاوز المرحلة الانتقالية، سواء عن طريق المشاركة فى كتابة الدستور والوصاية عليه، أو من خلال ترويج نصوص دستورية تجعل المؤسسة العسكرية دولة فوق الدولة، وتخرجها عن السيادة الشعبية.
وإذا كان انتقاد الإخوان بسبب هذه المشكلات والأخطاء الناتجة عنها أمرا طبيعيا، بل وواجبا لمن أراد تقويم الحركة الوطنية المصرية، فإن الانتقال من الانتقاد إلى العداء والتخوين غير مقبول، وهو مع ذلك يتنامى بشكل كبير فى الخطاب الإعلامى ومواقف النشطاء خلال الأسابيع الماضية، والتى بدا فيها الأمر كأنه رفض لوجود الإخوان لا نقد لمواقفهم، فالبعض يرفض التعامل معهم وإن اتفق مع مواقفهم كما حدث فى مليونية 13 أبريل التى قاطعها البعض لا لسبب إلا رفضهم مشاركة الإخوان التظاهر، والبعض يصور الإخوان كجماعة انتهازية متلونة بالتعريف، من لم يكن انتهازيا بين أعضائها فهو استثناء، حتى صار ارتباط بعض الساسة تنظيميا بالإخوان لفترة قبل استقالتهم من الجماعة مدعاة فى ذاته للتشكك فيهم والتحيز ضدهم بقطع النظر عن مواقفهم السياسية.
وقيادة الإخوان ــ كغيرها من القيادات ــ ليست منزهة عن الخطأ، لا السياسى فقط والمشار إليه سابقا، وإنما الانتهازية والطمع السياسى كذلك، وباعتبار الجماعة تنظيما بشريا فلا شك فى أن بين أعضائها وقياداتها من (يريد الدنيا)، غير أن افتراض قيام الجماعة كاملة على هذه الانتهازية والمطامع التنظيمية والسياسية بسبب مجمل قرارات أعضائها خلال العام الفائت هو افتراض مردود من جهات، أولها أنه يخلط بين قرارات سياسية يقوم بها العشرات وبين فصيل سياسى وتيار وطنى ينتمى إليه مئات الآلاف على الأقل ويصوت له الملايين، وإذا كان افتراض الخطأ السياسى، والقصور الفكرى، بل وافتراض الانتهازية فى العشرات ممكنا فإن افتراضها ومعها الخيانة فى مئات الآلاف غير متصور.
وثانيها أنه يخلط بين إدارة لحظية لمشهد سياسى حال من جهة وأهداف ومساعٍ امتدت لعقود من جهة أخرى، فالانتهازية متصورة (ولا أقول موجودة بالضرورة) من فصيل سياسى يقترب من الإمساك بسدة الحكم، بيد أنها غير متصورة من تيار وتنظيم تعرض أفراده لاعتقالات ومصادرات متتالية على مدار عقود، وثالثها أن هذا الافتراض يتعامل مع الإخوان ككيان سياسى يدرك أعضاؤه تبعات وأبعاد قرارات القيادة، وهو غير حاصل، إذ تكوين جسم الجماعة هو بالأساس دعوى، والخبرات السياسية لأعضائها محدودة، وعندهم من المبررات ما يجعلهم يثقون فى قياداتهم التنظيمية، خاصة أن طبيعة النقد العدائى الموجه لهم يدفعهم للتترس التنظيمى، ولو تغير شكل النقد وصار متعلقا لا بنفس الإخوان وإنما بمواقفهم فلربما تغيرت معه ردود الفعل من داخل التنظيم وصار أكثر قدرة على إعمال العقل النقدى والإستراتيجى للجماعة، ورابعها أنه يفترض تطابقا بين أعضاء الجماعة من حيث رؤاهم السياسية عمقا وتنوعا وكذا من حيث أخلاقياتهم، والأول غير حاصل لأن التوجه السياسى ليس القاسم المشترك الأعظم لأعضاء الجماعة وإنما محض الإيمان بأن الإسلام نظام شامل، والثانى غير حاصل لتنوع الخلفيات.
ليس الإخوان تنظيما سياسيا فحسب، وإنما جماعة اجتماعية وتيار وطنى، وانتقاد الجماعة ومواقفها أمر طبيعى لا بد وأن تتعاطى الجماعة معه بإيجابية وتستفيد منه وإلا أضرت بالوطن ونفسها، غير أن الانتقال من موقف النقد إلى التخوين هو انتقال لا يقوم على أساس فكرى منضبط، ولا يحقق أى مصلحة للوطن.