زيارة الاقتصادى اللاتينى «هيرناندو دى سوتو» مثيرة فى توقيتها ومربكة فى رسائلها.
لماذا جرى استدعاؤه للقاهرة فى ذروة الحملات الانتخابية الرئاسية والاستماع إليه قبل أيام من الذهاب إلى صناديق الاقتراع؟
فى الحوار معه إثراء للتفكير العام فهو رجل صيته الدولى يسبقه والحالة المصرية تدخل فى اهتماماته.
وفى الحوار شىء من القلق واحتمال ما لإعادة النظر فى المشروعات الاقتصادية الكبرى التى سادت نزعتها الأطروحات الانتخابية.
ما هى المشروعات التى سوف تستبعد من على أجندة الحكم القادم وما هى المشروعات التى سوف يمضى العمل فيها بلا إبطاء؟
هذا سؤال ملح على القادم الجديد لقصر الاتحادية.
الطموح طبيعى لأى رئيس قادم والتأنى ضرورى قبل أن تزيد التكاليف الاقتصادية والاجتماعية والأمنية عن أية عوائد متوقعة.
بالنسبة للعالم الاقتصادى القادم من بيرو فهو أمام بلد يعانى من أزمتين متداخلتين.. إرهاب يهدد بنية مجتمعه واقتصاد يوشك أن يتداعى.
وهذا موضوع أهم أطروحاته عن «الطرق الأخرى» لجواب اقتصادى يواجه الإرهاب وتحدياته.
بلطمة على وجه البائع الفقير «بو عزيزى» فى تونس من ضابطة شرطة أخذ التاريخ مسارا جديدا فى المنطقة كلها.
لا كان معترفا به من دولته ولا قوانين حمته وكل شىء اعتمد على أريحية السلطة.
فى غياب القوانين الحديثة المنظمة امتهنت كرامة الناس وتوحش الفساد ودخل الإرهاب بتنظيماته من النوافذ والأبواب.
الكلام المتواتر فى مصر عن حتمية البيئة الأمنة لحركة الاقتصاد وقدرته على تلبية احتياجات مجتمعها صحيح ولا يشك فى سلامته أحد لكنه ينطوى عادة على نقص فادح فى الرؤية والحركة معا.
التركيز على هذا المعنى قبل غيره يهمش أهمية الاقتصاد نفسه فى استتباب الأمن وتجفيف الإرهاب.
بالنسبة لمدرسة اقتصادية كاملة فى أمريكا اللاتينية ينتمى إليها «دى سوتو» فإن بناء منظومة مالية واجتماعية منضبطة ومتماسكة تسبق أية أحاديث عن مشروعات كبرى.
فى حواراته القاهرية ربما أشار إلى خبرة أمريكا اللاتينية فى النهوض بدولها من تحت خط الصفر.
أى مطلع على الأرقام والحسابات والتوقعات يدرك أن هناك فرصة سانحة أمام مصر للخروج من عنق الزجاجة والاعتماد على نفسها فلا أحد يعيش على المساندات الخارجية إلى الأبد.
هناك توقعات بضخ نحو (٧٠) مليار دولار فى شرايين الاقتصاد المصرى خلال الثلاث سنوات القادمة غير أنها مرشحة للهدر ما لم تستند إلى منظومة مالية واجتماعية وقدرة على توظيف الموارد الجديدة وفق نظام قانونى حديث.
وفق «دى سوتو» فإن الحماية والأمن حجر الأساس لجميع الاقتصادات الناجحة والنظام القانونى هو صلبها.
القدرة على الإنجاز تتوقف على القوانين المنظمة لا على حسن نية السلطات المحلية.
فى النظام القانونى ضرورات لإخضاع الاقتصادى غير الرسمى وبحسب تقديراته فإن قيمته تتجاوز جميع الاستثمارات الأجنبية منذ أن غادر «نابليون بونابرت» مصر عام (١٨٠١)!
بمعادلة مبسطة فإن النظم التى تخلق الفقر والغضب تتمدد فيها القاعدة ويضرب الإرهاب.
بهذا المعنى فالحرب على الفقر حرب أخرى على الإرهاب وفى بناء دولة القانون احتواء للغضب وتفاعلاته.
وهذه من أول تحديات الرئيس القادم التى تؤكد مصادر موثوقة إنه سوف يقسم اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا الأربعاء (٤) يونيو وربما يؤجل ليومين آخريين على أقصى تقدير لتجاوز الدلالات الحزينة لليوم التالى.
من اليوم الأول تعترضه «معادلة دى سوتو».
أمامه فرص مفتوحة ومزالق خطرة.
هناك تهيؤ دولى فى العالم والإقليم للاعتراف بالحقائق المصرية بعد انتخاباتها الرئاسية وانخفاض متوقع فى مستويات العنف والإرهاب ومعدلات تهريب السلاح إلى داخل الحدود بالنظر إلى ما يحدث فى ليبيا الآن من تحركات عسكرية وشعبية مناهضة لدولة الميليشيات وضخ منتظر لاستثمارات جديدة فى الاقتصاد المنهك.
وهناك بالمقابل مزالق تورط الحكم الجديد فى مشروعات اقتصادية كبرى مكلفة ومستنزفة لأية موارد قادمة من الخارج بلا دراسات جدوى موثوقة أو أن يمضى الأمر قفزا قبل أن تكون هناك بنى قانونية ومالية ومجتمعية تضمن أن تصل الطموحات إلى نتائجها.
بحسب المعلومات المؤكدة فإنه من بين أسباب إحجام المرشح الأكثر حظا عن إعلان برنامجه الانتخابى أنه يتضمن مشروعات كبرى مكلفة دون أن يكون هو نفسه مطمئنا تماما إلى دراسة جدواها.
هناك فارق جوهرى بين أحاديث انتخابية على الفضائيات تنطوى بطبيعتها على نوايا وتوجهات ورؤى وبين مشروعات تتبناها الدولة وهناك خشية من تكرار إخفاقات مشروعات سبقتها.
بحسب رئيس الحكومة المهندس «إبراهيم محلب» فإنه لن تكون هناك أية خطوات تنفيذية قبل استكمال دراسات الجدوى.
فى مشروع الدكتور «فاروق الباز» «ممر التنمية» مثال، فهناك دراسات منشورة لعلماء آخرين يدخل المشروع فى تخصصهم المباشر تشكك فى جدواه فنيا واقتصاديا وتؤكد بالخرائط الجيولوجية استحالة تنفيذه على امتداد محاوره العرضية وربما عبر المر الطولى.
المثير أن الحكومة المصرية على عهد «أحمد نظيف» كلفت فريقا من كبار العلماء والمختصين بإجراء دراسة جدوى للمشروع من بينهم علماء فى الجيولوجيا والمياه الجوفية والتخطيط العمرانى وتوصلت إلى عدم صلاحيته وأنه فكرة أكثر منه مشروعا.
دراسة الجدوى المهدرة كلفت ميزانية الدولة نحو (٥) ملايين جنيه.
مصر لا تحتمل فى ظروفها الاقتصادية القاسية أية مشروعات اقتصادية كبرى أيا كان نبل مقاصد أصحابها قبل النظر فى جدواها بأقصى درجات التشدد حتى لا تهدر فيها أموالا بمليارات الدولارات يصعب تعويضها.. وهذه مسألة تخرج من المساجلات التقليدية بين العلماء إلى الضرورات الوطنية فى استكشاف الفرص الممكنة.
هناك توجه مرجح لعقد مؤتمر اقتصادى يبت فى التصورات والمشروعات قبل أى شروع فيها ويحاول التوصل إلى خطوط عريضة لتوافق وطنى أوسع على أى مشروع إنقاذ.
وقبل ذلك كله فإن الاستجابة لمتطلبات الحياة اليومية ووقف التدهور العام فى بنية الاقتصاد له الأسبقية المطلقة وإلا فإن الثمن سوف يكون باهظا.
لا أحد مستعد أن يحتمل مظالم جديدة دون أن يكون واثقا أن العدل هو أساس الملك وأن الرئيس الجديد وأحلامه مشروعه فى القفز بالاقتصاد لن يحمل الفئات الأكثر فقرا وعوزا والطبقة الوسطى أعباء لا تحتملها وإعفاء رجال الأعمال من أية مسئولية.
بصورة أو أخرى فإن معادلة «دى سوتو» عن الاقتصاد والإرهاب سوف تخيم على المشهد المصرى إلى أن يجد بوصلته ويأخذ طريقه.