الصراع الأخير حول ضريبة الأرباح الرأسمالية على معاملات الأوراق المالية («ضريبة البورصة») لم يكن ــ كما تم تصويره إعلاميا ــ صراعا بين الظلم والعدالة الاجتماعية، ولا بين رجال الأعمال وباقى الشعب المصرى، بل كان تعبيرا عن مشكلة أعمق بكثير فى الخطاب الاقتصادى السائد، وهى الفجوة المستمرة بين الرغبة فى تحقيق العدالة وعدم وضوح الأدوات اللازمة لبلوغها.
الضريبة لم تكن صراعا بين أصحاب المال والنفوذ وجمهور الشعب الكادح لأن هذا التصور يستند إلى عدة افتراضات خاطئة: أن البورصة ليست مفيدة للاقتصاد القومى ولا تعدو أن تكون صالة قمار يرتادها المضاربون فى الأسهم والسندات وفى مصائر الناس ومدخراتهم، وأن الأفضل لاقتصاد لا يزال ينمو مثل الاقتصاد المصرى أن يستغنى عنها بالكامل، وأن ضريبة
البورصة كانت ضد مصالح الأغنياء وأصحاب الملايين لأنها من وسائل تحقيق العدالة الاجتماعية، وأن إلغاءها فى الأسابيع الأخيرة كان انتصارا لهم على إرادة الدولة. ووجه الخطأ فيما تقدم هو الآتى:
أولا، إن بورصة الأوراق المالية ليست كازينو للقمار كما يتردد فى الخيال الشعبى، ولا ساحة مضاربة وتلاعب، بل هى سوق منظمة لها قوانين وضوابط، تساعد الشركات على زيادة رءوس أموالها والتوسع فى نشاطها وعلى جذب الاستثمارات، كما تساعد الناس على توجيه مدخراتهم لاستثمارات مالية أكثر فائدة للاقتصاد القومى من الادخار فى العقارات والمجوهرات. ولو
لم تكن البورصة مؤسسة مالية ذات فائدة للاقتصاد والمجتمع لما كانت معروفة ومستقرة فى كل بلدان العالم، حتى تلك التى تنتهج نظما اقتصادية اشتراكية أو مختلطة. بالتأكيد إن البورصة ــ مثلها مثل أى سوق أخرى ــ فيها قدر من التلاعب، وعلى الدولة أن تحاربه وتلاحق من يرتكبونه. ولكن لا يعنى ذلك اتخاذ موقف عدائى من البورصة برمتها، كما أن على الدولة أن
تلاحق وتعاقب من يخالفون قواعد المرور ويتسببون فى حوادثه المروعة دون أن يعنى ذلك إلغاء استخدام السيارات.
ثانيا، إن المستثمرين فى البورصة ليسوا بالضرورة كبار الأثرياء وأصحاب الملايين، بل القيمة الحقيقية لسوق الأوراق المالية انها قادرة على جذب مدخرات قطاع واسع ممن يرغبون فى استثمار أموالهم بمبالغ محدودة لأن شراء الأسهم والسندات يكون بقيم متفاوتة كما أنه يتيح توزيع المخاطر بين أوراق مالية مختلفة. أما فى غياب البورصة فإن الاستثمار يكون حكرا على الأثرياء وأصحاب المدخرات الكبيرة لأنهم القادرون على المساهمة فى شركات مغلقة، أو فى شراء عقارات، أو على تدوير أموالهم فى التجارة، وكل هذه اعمال تتطلب رءوس أموال كبيرة نسبيا. المتعاملون فى البورصة إذن ليسوا الأثرياء فقط بل أيضا اصحاب المدخرات المتوسطة والصغيرة. ولذلك فإن الضريبة التى تفرض على تعاملات البورصة فى معظم أنحاء العالم
لا تكون على كل ربح يحققه من يشترى ويبيع أسهما أو سندات بشكل عام ــ كما كان الحال فى ضريبة البورصة الاخيرة ــ وإنما يتم تصميمها لكى تستهدف العمليات الكبرى التى تعبر عن ربح رأسمالى حقيقى.
ثالثا، إن البورصة لم تتعرض لانهيار بسبب الضريبة الأخيرة، بدليل أن القانون الذى فرض هذه الضريبة صدر منذ شهر يوليو الماضى، وتمكنت البورصة من استيعابه والعودة لنشاطها المعتاد بعده. انهيار البورصة جاء فى أعقاب صدور اللائحة التنفيذية منذ بضعة أسابيع بسبب عدم وضوح الرؤية، وغموض أحكام اللائحة، والتأخر فى إصدارها. ضريبة البورصة
الأخيرة مثال ليس على نفور المستثمرين من الضرائب بشكل عام، وإنما على أن الغموض والضبابية هما أعداء الاستثمار. ولذلك فإن الوضع الحالى لضريبة البورصة هو الأسوأ على الإطلاق، فلا الضريبة تم تطبيقها، ولا إلغاؤها، وإنما «تأجيلها» لمدة عامين، بل وحتى قرار التأجيل لم ينشر فى الجريدة الرسمية حتى لحظة كتابة هذه السطور، وبالتالى لم يكتسب اليقين
القانونى. وهذا الغموض هو أكثر ما يضر بالاستثمار سواء فى البورصة أم خارجها.
ومع ذلك يظل السؤال هو: لماذا كان الصراع على ضريبة البورصة محموما وعنيفا إلى هذا الحد؟
فى تقديرى أن حدة الصراع ترجع إلى أن المجتمع المصرى، خاصة بعد ثورة يناير، صارت تشغله قضية العدالة الاجتماعية والشعور بالظلم الاجتماعى العميق فى كل مناحى الحياة. ظلم فى توزيع الموارد، وفى مستوى الخدمات العامة، وفى توافر السلع الأساسية، وفى فرص العمل والتقدم فى المجتمع. والعدالة الاجتماعية لم تكن مجرد شعار رددته الجماهير فى الميادين،
بل كان محركا رئيسيا للناس وتعبيرا عن سخط بالغ ضد الفساد وضد استئثار النخبة بالموارد والثروات والفرص. ولكن من جهة أخرى فإن غياب الحد الأدنى من الاتفاق حول كيفية تحقيق العدالة الاجتماعية، وصعوبة الحصول على المعلومات والإحصاءات عن أوضاع المجتمع، والفوضى الإعلامية فى تناول الموضوع، كل هذا جعل قضايا وملفات بعينها تتحول إلى ساحات
للتعبير عن الانحياز الاجتماعى لكل فريق، حتى ولو لم تكن هذه الساحات بالذات هى التى تتصارع فيها المصالح الطبقية والانحيازات الاجتماعية بشكل حقيقى. ولهذا تحولت ضريبة البورصة إلى ساحة قتال، برغم أن عائدها المالى كان محدودا، وأثرها على تحقيق العدالة الاجتماعية يكاد يكون منعدما، لأنها كانت مناسبة لاستقطاب الآراء ولو بشكل رمزى بين طرف يبدو
أنه يدافع عن مصالح الأغنياء وطرف آخر يُزعم انحيازه للجماهير.
هذه المعارك الفرعية سوف تستمر، وسوف تنطلق وتخبو دون تقدم يذكر، طالما لم يجر حوار أكثر عمقا حول العدالة الاجتماعية، وحول أسباب الفقر، ومصادره، وتوزيعه فى المجتمع جغرافيا وفئويا وطبقيا، ووسائل تحقيق العدالة دون التضحية بكفاءة الاقتصاد، وطالما ظل الحماس لتحقيق العدالة الاجتماعية والحديث عنها فى الاعلام والفضائيات منبت الصِلة بالأدوات
والسياسات والبدائل الحقيقية التى تساعد على تحقيقها.