لا يملك المصرى الديمقراطى، إلا أن يشعر بالحسد أمام ما يراه يوميا من صور ولقطات إيرانية تبين مدى حيوية السياسة فى هذا البلد العريق. مؤشر واحد يكفى لكى يلخص الفارق بين الانتخابات الإيرانية والمصرية. فى إيران ذهب حوالى 80% من الناخبين للتصويت فى الانتخابات الأخيرة، وفى مصر ذهب حوالى 20% فقط فى انتخابات2005. لكن مشاعر الحسد لا يجب أن تعطل إعمال العقل. من السهل أن نرمى الشعب المصرى بالسلبية بالمقارنة بالشعب الإيرانى، ولكن هذا لن يُغنى شيئا، لأن السؤال الذى سيطرح بالضرورة هو لماذا هذه السلبية؟.. ألم يصل معدل التصويت فى انتخابات1951 ــ وهى آخر انتخابات تجرى قبل انقلاب يوليو العسكرى ــ إلى60%؟.. دعونا ننصف المصريين ونقول إن مشاركتهم المحدودة فى الانتخابات منذ1952 تعكس التأثير المحدود الذى تمارسه الانتخابات على السياسة المصرية، بعكس الانتخابات فى إيران. فى الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة صوت حوالى 8 ملايين مصرى فقط طبقا للأرقام الرسمية. كان لكاتب هذه السطور حظ دراسة تلك الانتخابات والتعرف على بعض ملامح الناخب المصرى. هو غالبا ناخب فقير فى المال وفى الشهادات الدراسية. فلماذا لا يقبل إلا هؤلاء على التصويت فى مصر؟.. لأن مثل هؤلاء هم من يحتاجون الانتخابات. ماذا تعطى الانتخابات للمصريين؟.. هى لا تمنحهم تغييرا فى الحكومات أو فى السياسات. معظم الناخبين هنا يصوتون مقابل عطايا، سواء اتخذت شكل مدفوعات نقدية مباشرة أو خدمات. لا مشكلة فى أن يصوت الناخب على أساس المصلحة المادية. فالشعوب تشارك فى الانتخابات أولا وقبل كل شىء من أجل حياة يومية أفضل.. وظائف أكثر، دخول أعلى، أسعار أقل، تعليم أفضل، شوارع أجمل..الخ. وفى البلاد التى تحكمها الديمقراطية الناس تصوت لحياة أفضل من خلال تغليب برامج على برامج وأحزاب على أحزاب. لكن فى البلاد التى يحكمها الاستبداد الناس لا تصوت من أجل تغيير السياسات ولكن من أجل الحصول على العطايا. بعبارة أخرى، الشعوب كلها تذهب للصناديق أساسا من أجل الاقتصاد. الفارق بين الشعوب التى تنعم بالديمقراطية وتلك التى يحكمها الاستبداد هو أن الشعوب الأولى تصوت لتقرير مصير الاقتصاد ولكن الشعوب الثانية تشارك فقط للحصول على كعكة فى «مولد» الانتخابات. لهذا يكون التصويت ضعيفا فى ظل انتخابات النظم السلطوية ويتركز بالذات فى أوساط الفقراء والمحرومين.
لماذا صوت الشعب الإيرانى إذا بكثافة بالرغم من سلطوية نظامه السياسى؟.. يقوم نظام الحكم هناك على ولاية الفقيه. فأقوى رجل (رجل بالضرورة) فى إيران هو على خامنئى مرشد الجمهورية، وهو غير منتخب من الشعب، ويستمد سلطته من رتبته الدينية. الدولة فى إيران دينية، والدولة الدينية بالضرورة سلطوية. فالديمقراطية لا يمكن أن تقوم أبدا إلا على حد أدنى من العلمانية يحد من تسلط رجال الدين على المجال السياسى. أنظروا إلى الخريطة السياسية فى العالم.. لن تجدوا نظاما ديمقراطيا واحدا لا يقوم على العلمانية السياسية. بالإضافة إلى ذلك، الديمقراطية ليست فقط انتخابات حرة نزيهة. فلو سلمنا بنزاهة انتخابات إيران لن يكون ذلك دليلا على ديمقراطية النظام السياسى إذا كانت المجموعة الحاكمة هى من تقرر من له حق خوض الانتخابات، وإذا كانت الناس لا تتمتع بحرية الرأى والتعبير والتنظيم. الديمقراطية بالتعريف هى حرية الناس فى الاختيار. كيف يختار الإنسان بحرية فى صندوق الانتخاب إذا كانت البدائل المتاحة له قليلة وتحت السيطرة وإذا لم تتح له الفرصة لكى ينتظم فى جماعة سياسية بحرية؟.. التصويت الإيرانى الكثيف فى الانتخابات يكشف عن نظام سلطوى فريد يختلف عن تلك السلطوية التى عرفناها وخبرناها فى مصر وهو قادر على إقامة مهرجانات انتخابية حية.
فى مصر السلطوية مركزية، تتمحور حول القصر الجمهورى فى مصر الجديدة. أما فى إيران، وخاصة بعد وفاة آية الله الخمينى، السلطوية لها مراكز متعددة. هناك على الأقل ثلاث حكومات فى إيران..حكومة خامنئى مرشد الجمهورية، وحكومة نجاد رئيس الجمهورية، وحكومة رافسنجانى رئيس مصلحة تشخيص النظام. إيران هى إحدى الدول النادرة فى العالم التى تمتلك جيشين..جيشا نظاميا والحرس الثورى، ونظامين قضائيين، عادى وثورى، وستة مجالس تشريعية. مركزية النظام السياسى فى مصر لا تعنى أن المجموعة الحاكمة موحدة، لا تخترقها انقسامات. الفارق الأساسى بين مصر وإيران هو أن أجنحة النظام فى إيران لها امتدادات عميقة داخل المجتمع وهى تخوض صراعاتها ضد بعضها البعض بواسطة تعبئة وتحريك فئات وجماعات، وهو الأمر الذى رأيناه بأعيننا فى الشارع الإيرانى طوال الأسابيع الماضية. أما فى مصر فالنظام السياسى لا يمتلك جذورا عميقة، لذلك تقتصر صراعات أجنحة المجموعة الحاكمة على مؤامرات القصر..مجموعات تأكل فى بعضها دون أن تستدعى أى قوى من خارجها. يقتصر دور المجتمع هنا على النميمة والثرثرة على فتات المعلومات التى تتسرب. ومن المرجح أن القانون العرفى فى الخصومة بين أجنحة النظام فى مصر كان ألا يلجأ أحد للشارع أو للشعب، لأن فى اللجوء إليهما مخاطرة على بقاء النظام كله. التضامن الشديد فى مصر بين أجنحة النظام لا يرجع فقط إلى اتفاق «جنتلمان» بينها وإنما يعود أيضا لحقيقة أن القطب الأمنى/العسكرى فى مصر لم يظهر له منافس مستقل ماديا وله جذور اجتماعية قادر على تحريكها. هناك محاولات لخلق قطب قوى داخل الحزب الوطنى بالاعتماد على رجال الأعمال القريبين من ابن الرئيس. لكن من المبكر الحكم على هذه المحاولات الآن.
لا يمكن فهم الصراع السياسى المستعر فى إيران الآن بدون الكشف عن «الدورة الدموية المالية» للنظام الإيرانى. المال هو الطاقة المحركة للانتخابات فى النظم السلطوية. فعلى سبيل المثال، لا يمكن فهم ملايين الأصوات التى ذهبت للرئيس نجاد إلا من خلال التعرض لدور مؤسسة مهمة هى «لجنة الإمام للصدقات». لا يجب أن ينخدع القارئ الكريم بأن اسمها «لجنة»، فهى فى الحقيقة إمبراطورية اقتصادية عملاقة تمتلك آلاف صناديق النذور المنتشرة فى كل ركن من إيران، كما تحتل المرتبة الرابعة فى التمويل من بين مؤسسات الدولة بعد وزارة الدفاع، والشرطة والحرس الجمهورى. بل إن ما تحصل عليه من أموال الدولة يفوق الميزانيات المجتمعة للمجلس التشريعى ولوزارات العدل والخارجية والثقافة والإرشاد. هذه اللجنة هى فى الحقيقة دولة داخل الدولة، وبالرغم من حصولها على كل هذه الأموال العامة إلا أنها لا تخضع للإشراف الحكومى. هذه اللجنة هى إحدى الخزائن المالية للجناح المحافظ فى الحكم التى بواسطتها استطاع أن يحرك ملايين الأصوات لصالح نجاد. وما يسرى على نجاد ينطبق أيضا على موسوى وإن كان بدرجة أقل.
إن فهم وتحليل الصراع السياسى الإيرانى الذى يتخذ من الانتخابات والشارع ساحة أساسية له ومقارنته بالصراع السياسى المصرى الذى يحتمى بأسوار القصور لا يستقيم بدون بناء هذا التحليل على أرضية الاقتصاد السياسى لكلا البلدين. يكفى أن نورد رقمين كافيين لتلخيص الفارق العظيم بين إيران ومصر. بلغت إيرادات النفط الإيرانى فى العام الماضى حوالى 70 مليار دولار بينما لم تصل فى مصر إلا إلى 15مليارا فقط. فإذا أضفنا إلى تلك الإيرادات عائدات قناة السويس التى وصلت إلى حوالى 5 مليارات دولار يكون النظام المصرى قد حصل على إيرادات ريعية (هبات من السماء) تبلغ حوالى 20 مليار دولار، أى ربع الإيرادات الريعية التى حصل عليها النظام الإيرانى بأجنحته المتصارعة. فهل لنا أن نندهش من أن نسبة المصوتين فى انتخابات مصر لا تتخطى ربع تلك النسبة فى إيران؟ فتشوا عن المال. إنه عصب الانتخابات فى النظم السياسية السلطوية!