البحث فى السياقات الحاضنة للتطرف - محمد رءوف حامد - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 6:09 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البحث فى السياقات الحاضنة للتطرف

نشر فى : الثلاثاء 26 يونيو 2018 - 9:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 26 يونيو 2018 - 9:40 م

عندما يختلف شخص بشدة فى الرأى أو فى خاصية (أو معيار) ما عن التيار العام أو عن السائد أو عن الأغلب وجودًا (أو قبولا) فى مجتمع ما ــ فإنه يُعد متطرفا مقارنة بالآخرين.
من هذا المنظور يعتبر التطرف كظاهرة واقعا واردا فى جميع الأشياء (أو الكائنات) ومنها البشر. إنه يظهر فى صورة تباين شديد يمكن أن يحدث لجميع أنواع الخصائص سواء هى خصائص شكلية مثل الطول (العملقة والتقزم) أو ذهنية (مثل حدة الذكاء وشدة الغباء) أو سلوكية (كالتسامح الدائم والعنف بدون رحمة)... إلخ.
وهكذا يمثل التطرف حالة حادة من حالات التباين النسبى فى خاصية ما. ذلك أن التباين ظاهرة طبيعية معروفة منذ القِدَم ولا توجد جماعات أو مجتمعات بغير تباين.
بمعنى آخر، التطرف ظاهرة طبيعية يمثل أعضاؤها جزءا من مجموع الناس. وسواء كان تطرفهم فى جانب إيجابى (أى حميد / كالتسامح) أو فى جانب سلبى (أى بغيض/ كالعنف) هم ينتمون إلى نفس المجتمع.
فى المقابل، يمثل عدم وجود تطرف نوعا من الغرابة فى المجتمع، سواء تمثلت (الغرابة) فى مثالية شبه خيالية أو فى قهر أو فى مراضة (كالبلادة)... إلخ.

إشكالية تحول التطرف إلى إرهاب
من الطبيعى أن استمرار التطرف غيرالحميد (وعلى وجه الخصوص التطرفات الذهنية والسلوكية) دون معالجة إنما يعنى استفحاله، وبالتالى تضخم انعكاساته السلبية وزيادة نسبة المتطرفين فى المجتمع.
هنا يمكن القول بأن ضعف الاستيعاب المجتمعى لإشكالية التطرف يساهم فى خروج المتطرفين عن السياق المجتمعى الطبيعى، وبالتالى تحولهم التدريجى إلى تقبل ثقافة الإرهاب وإلى ممارسته. وهكذا يتحولون إلى مشروعات وخبرات إرهابية بدرجات متفاوتة.
من الوارد هنا وجود عوامل خارجية ضالعة (ولو بشكل غير مباشر) فى هذا التحول سواء هى عوامل تضعف من قدرة المجتمع على استيعاب المتطرفين فيه أو هى تزيد من سرعة تحول المتطرفين إلى إرهابيين غير أن ذلك لا يعفى المجتمع من المسئولية الذاتية.

كيفية الاستيعاب المجتمعى للتطرف؟
إذا كان لهذا الاستيعاب عديد من الأدوات والمقاربات الممكنة فإن أهمها يكمن فى السياقات المجتمعية المحيطة والتى عند تدهورها تتزايد سرعة الاندفاع (أو التحول) إلى التطرف.
للتعامل العملى مع هذه المسألة يمكن اعتبار التطرف فى بداياته أشبه بالأجنة (أو بالبذور)، والتى يحدث لها تشوه إذا ما امتلأت بيئتها بسياقات (أو عوامل) غير حميدة. وبالتدريج يزداد التشوه فى الحجم والدرجة، وهكذا حتى يتحول الفرد المتطرف إلى كائن مشوه فى الرؤية والسلوك.
من المطلوب إذن حماية هذه الأجنة (أو البذور) من التشوه، وذلك بتلافى (ومعالجة) أى سلبيات (أو ملوثات) فى السياقات المحيطة بها.
هنا يبزغ السؤال الأهم بخصوص الاستيعاب المجتمعى للتطرف، ومنع تحوله إلى إرهاب ويختص بكيفية المحافظة على جودة ونقاء السياقات المحيطة ببذور التطرف (؟).

تنقية السياقات المجتمعية
المسألة إذن أن جودة السياقات (أو الظروف) المجتمعية السائدة تمثل رمانة الميزان بشأن إنجاز الاستيعاب المجتمعى.
ذلك أنه يمكن للتطرف أن يشتد شراسة وأن يتحول إلى إرهاب فى ظل مناخ (أو سياق) مجتمعى يحمل فى حد ذاته نبضات تطرف وفى المقابل، يكون فى خلو السياقات المجتمعية من نبضات التطرف عاملا مساعدا قويا بالنسبة لعمليات منع نمو وترعرع بذور التطرف، وبالتالى منع تحول التطرف إلى إرهاب وتجنيب المجتمع تأجيج انشقاق المتطرفين وتحولهم إلى إرهابيين.
وهكذا، المقاومة الصحيحة للتطرف تبدأ بتنقية السياق المجتمعى العام من أى ممارسات يمكنها بطرق مباشرة أو غير مباشرة أن تكون داعمة للتطرف.
هناك حاجة إذن لتناول جاد بخصوص السياقات.
فى هذا الشأن يمكن الإشارة إلى ثلاثة سياقات رئيسية تتضمن ما يمكن اعتباره تطرفا أو مدعمات للتطرف:

أولا: سياقات بنيوية
تأتى هذه السياقات من خلال منظومات (أو مؤسسات) وطنية يفترض فى مهامها الحماية من التطرف، وذلك على غرار ما يلى:
1ــ مسئولية «القضاء» عن انتشار قضايا الحسبة، حيث تسمح النيابة بمقاضاة صاحب رأى أو رؤية (فنية أو أدبية أو فكرية) بناء على بلاغات شخصية. عندها يتحول المبدع إلى متهم، وتتفتت طاقاته الإيجابية، فى المحاكم والسجون، ويموت زمنه الإبداعى والذى هو منحة من الخالق له كمبدع وللوطن كعائل مفترض للمبدعين.
2 ــ مماطلة «البرلمان» فى تنفيذ بعض أحكام القضاء (محكمة النقض) بخصوص صحة العضوية البرلمانية.
3ــ تنوعات شديدة فى التعليم ما بين أجنبى وعمومى ودينى بقدر يكون من شأنه (وتداعياته) تعرض الهُوية الوطنية لمخاطر الانشقاق والتفتت.
4ــ تأخر الدولة فى ممارسة استيعاب تفاعلى واقعى حقيقى للآخر من المثقفين والقوى السياسية.

ثانيا: سياقات سلوكية
من أبز هذه السياقات يمكن الإشارة إلى ما يلى:
1ــ سهو الدولة عن مسئوليتها فى منع البلطجة المرورية ومن أخطارها برطعة «التوكتوك» (بدون تراخيص أو أى نظام) وظاهرة سير الموتوسيكلات والسيارات عكس الاتجاه وبدون ضوء.
لقد تفاقمت حوادث العنف المرورى، حتى صارت كوارثها تتشابه مع كوارث الإرهاب.
ذلك إضافة إلى ترك مساحة كبيرة لممارسات البلطجة والإتاوة فى الشارع الحياتى العام.
2ــ تأخر الدولة عن منع العنف البينى (بين أفراد المجتمع وبعضهم) والذى يتجلى يوميا فى أخبار وتقارير صحفية متنوعة تتضمن التهديد وهتك العرض والاغتصاب والقتل والإهمال بشأن حياة الآخرين (مثلما يحدث فى حالات تؤدى إلى الصعق الكهربائي)... إلخ.
3ــ استمرار إشكالية حسن اختيار القيادات.
هذا، ويمكن القول بأن الدولة مطالبة، تجاه السياقات السلوكية بتحريك متوافق وشامل لجميع أدواتها العلمية والأمنية والتعليمية والإعلامية والرياضية... إلخ، فضلا عن التنسيق والتعاون مع مؤسسات العمل المدنى ذات الصلة وذلك بهدف التجفيف المنهجى الكامل لمثل هذه السياقات والممارسات.

ثالثا: سياقات معرفية
أ‌) ضعف المعرفة بالإدارة
يكمن جوهر مسئولية السياقات المعرفية بخصوص عموم التطرفات، فى إشكالية إدارية عامة يمكن وصفها بضعف المعرفة بالإدارة. هذا الضعف ينشئ احتمالية عالية للولوج إلى مسارات تحمل نبضات تطرف (ولو بدون قصد).
المعرفة بالإدارة تساعد على نجاح مسارات التقدم والتى تبدأ بـ«التمكين» وتصل إلى حد «الارتقاء» مرورا بكل من «التشبيك» و«التكامل» وذلك بين الأفراد والمجموعات والمؤسسات، وبالتالى تقدم الدولة ككل.
هذا ويجدر الانتباه إلى أن التغاضى عن المعرفة بالإدارة يقود إلى نبضات تطرفية وذلك مثل:
ــ الاعتماد على الاستثمار الأجنبى بأكثر من الدفع إلى استثمار الإمكانات الذاتية.
ــ تزايد الديون.
ــ ممارسات البدء من الصفر.
ــ تغيير الوجوه (القيادية) دونما تطوير فى السياسات.

ب‌) الضعف فى إدارة المعرفة
أيضا، إشكالية كبيرة تنجم عن ضعف المعرفة بالإدارة، وهى عدم الارتقاء المجتمعى إلى مستوى لائق فى «إدارة المعرفة» ذاتها وذلك بمعنى إدارة منظومات وأدوات العلم والتكنولوجيا على المستويات الكلية والجزئية (أو الكبيرة والتفصيلية) بالقدر الذى يؤدى إلى تعظيم استخدام الإمكانات المعرفية فى تحسين عموم الحياة على أرض مصر (وتطوير سيناريوهاتها).
هذا، ويمكن الاستنتاج بأن تدهور السياق المعرفى بمجمله (والناشئ عن ضعف الإدارة بالمعرفة، وضعف إدارة المعرفة ذاتها) يؤدى بالإضافة إلى ما ذُكر أعلاه إلى ثلاث نبضات تطرفية كارثية تُعد حاضنة للتطرف وهى:
أ‌) تدنى التوجهات (والإمكانات) فى عموم أنشطة الإعلام والتعليم والسياسة بخصوص ترسيخ قيم وممارسات الحوار وحق الآخر والتسامح.
ب‌) ضعف التفكير العلمى بوجه عام.
ت‌) وجود قدر من الفصل بين الإجراءات والأحداث من جانب و السياسات العامة من جانب آخر.
أما السبب فى اعتبار هذه النبضات التطرفية كارثية فهو أن من شأن استمرارية وجودها الازدهار لممارسات احتضان التطرف فى السياقات الرئيسية الثلاثة (البنيوية – السلوكية – المعرفية) ومن ثم الإخفاق فى مقاومته وفى تحاشى تحوله إلى إرهاب.

محمد رءوف حامد خبير صناعة الأدوية ورئيس هيئة الرقابة الدوائية السابق
التعليقات