كان المجند سليمان خاطر يؤدى خدمته على الحدود المصرية الإسرائيلية عندما فوجئ بمجموعة من الإسرائيليين يعبرون الحدود فى منطقة حراسته، أمرهم بالتوقف فلم يتوقفوا، أطلق رصاصات تحذيرية فاستمروا، صوب سلاحه تجاههم وقتلهم وهم داخل الأرض المصرية، على بعد أمتار من وحدة حراسته فى رأس برجه جنوب سيناء.
أطلق خاطر النار دفاعا عن أسرار وحدته العسكرية التى مر هؤلاء بجوارها، وأطلق النار دفاعا عن مصر العربية المقاومة، التى عرفها منذ طفولته معادية لإسرائيل، فصور أطفال بلدته الذين قتلهم القصف الإسرائيلى لمدرسة بحر البقر، وهو فى التاسعة من عمره كانت حاضرة فى ذهنه، لم يكن يعلم أن قادة مصر صارت لهم رؤية مختلفة.
عندما أطلق خاطر النار فى أكتوبر 1985 كانت مصر قد وقعت اتفاق سلام مع إسرائيل، وكان علم إسرائيل قد رفرف خمس سنين فى سماء القاهرة، التى كان يسكنها وقتئذ شخص يدعى موسى ساسون، ولد فى دمشق سنة 1925، وكان عضوا فى عصابات الهاجانا، التى كانت تقتل العرب فى القدس سنة 1947، ثم صار ثانى من يشغل منصب كان وقتها جديدا اسمه: السفير الإسرائيلى بالقاهرة.
وجد خاطر نفسه أمام محقق عسكرى يسأله لماذا أطلقت النار؟ لم يفهم أن تكون هذه تهمة فأجاب بسؤال: لماذا قلتم لنا إن عبورهم ممنوع إن كنتم تسمحون به؟ المحقق مرة أخرى: لماذا تصر على تعمير سلاحك؟ المجند: لأن الجندى الذى يحب سلاحه يحب وطنه، والذى يهمل سلاحه يهمل وطنه.
خلال أسابيع معدودة من الواقعة وجد خاطر نفسه أمام قاض عسكرى، متهما ــ فيما يبدو ــ بالدفاع عن حدود وطنه، قال للقاضى أنه على استعداد لتقبل أى حكم، ولو كان الإعدام، لكنه يخشى أن يكون للحكم الذى يصدر ضده آثار سيئة على المجندين، ربما تصيبهم بالخوف وتقتل فيهم وطنيتهم، فكيف يكون الدفاع عن الوطن جريمة تستحق العقاب؟ كان العقاب حكما بالسجن المؤبد.
كانت محاولات حثيثة لقتل العداء لإسرائيل قد بدأت مع كامب ديفيد، حكم النظام ــ فى قضية خاطر ــ على الوطنية وعداء إسرائيل بالسجن المؤبد، تمنوا أن تموت الوطنية فى محبسها، أو أن يتحول العداء لصداقة من تكرار الزيارة فى السجن، أعادوا توجيه العداء فى كل اتجاه، غربا وجنوبا، بل وفى أقصى الشرق عند إيران وأفغانستان، أملا فى أن يخفف هذا كله من حدة العداء المصرية تجاه المشروع الصهيونى.
ولكن يبدو أن تراب الوطن وماءه وهواءه قبل بشره تعادى إسرائيل، ويدركون أن التهديد الرئيس لأمن مصر القومى يأتى من شرقها، وأن استقلال القرار الوطنى لا يمكن أن يصنع إلا على أساس معاداة إسرائيل، التى تمددت فى سنوات كامب ديفيد فهددت أمن سيناء، وهددت مواردنا المائية بنشاط مكثف فى جنوب السودان وما فى جنوبه، وحولت مصر حارسا لبوابتها الغربية، تحميها من المقاومة الفلسطينية، وتقوم نيابة عنها بحصار الفلسطينيين فى غزة، وتسكت عن اعتداءات متكررة على الأرض والأنفس، حتى وصل الأمر لأن وصف القادة الإسرائيليون الرئيس المخلوع بأنه (كنز إسرائيل الاستراتيجى).
كان وعى المصريين أعمق، فبعد بضع وثلاثين سنة من توقيع الاتفاقية، وربع قرن من تلك الحادثة، وبعد أسابيع قليلة من تحرر إرادة المصريين بالثورة، نزل المتظاهرون للشوارع مؤيدين للانتفاضة الفلسطينية الثالثة، ثم نزلوا منددين بالاعتداء على حرس الحدود المصريين فى سيناء، مصرين على طرد السفير الإسرائيلى وإنزال العلم من على السفارة، تحركهم العفوى دل على أن الوطنية خرجت من محبسها عفية، وأن معاداة إسرائيل لم تزل مكونا رئيسا من مكونات الوطنية المصرية، وأن سنوات كامب ديفيد لم تكن كافية لتغيير انتماء المصريين لمحيطهم العربى والإسلامى.
لم يكن مطلوبا من المصريين قبل تحرير إرادتهم بالثورة أكثر من أن يحافظوا على هذا العداء، وأن يتوارثوا (لا تصالح)، أما وقد تحررت إرادتهم فقد صار تحويل هذا الشعور العدائى لموقف سياسى أمر لا مناص منه، إذ هو سبيل الدفاع عن مصالح الأمن القومى، وعن الهوية، وعن الاستقلال الوطنى.
وفى تقديرى إن الحديث عن تغير فى السياسة الخارجية بغير حديث عن تغير شامل فى السياسة الاقتصادية والاجتماعية هو محض عبث، إذ هذا الموقف المعادى لإسرائيل ــ والذى يؤدى لتقارب أكثر من تركيا وإيران، واستقلال عن دول محور الاعتدال ــ لا يمكن أن يقوم إلا على أكتاف مجتمع سوى لا نملك بعد مقوماته.
وأول ما ينبغى توفره لمجتمع يريد استقلالا وطنيا هو العدالة الاجتماعية، إذ لا يمكن لبلد غنى بالموارد يعيش أغلب مواطنيه بمحاذاة خط الفقر أن يصمد فى صراع، ويصعب على بلد لا يجد معظم أهله قوت يومهم إلا بالصدقة والإحسان أن تكون فيه الكرامة أولوية مصانة، ولن يجد بلد لا يحظى أبناؤه بحظوظ عادلة فى التعليم والصحة ما يدافع به عن هويته فى معركة بقاء طويلة تستنزف العمر.
تلك العدالة الاجتماعية تقوم ــ فى أقل تقدير ــ على دور أكثر جدية للحكومة فى ثلاثة محاور، أولها إعادة توزيع الثروات بفرض ضرائب تصاعدية وحد أدنى وأقصى للأجور، وثانيها استعادة السيادة على الموارد الوطنية كالغاز والبترول والمياه الإقليمية، التى توفر مواردها دخلا يمكن الحكومة من الاضطلاع بدورها فى تحقيق العدالة، وثالثها المشاركة فى التنمية وعدم تسليم الاقتصاد بشكل غير مشروط للقطاع الخاص، إذ لابد من الحفاظ على دور الدولة فى القطاعات ذات الأهمية الاستراتيجية والمتعلقة بالأمن القومى.
وأما الضلع الثانى الذى ينبغى أن تستند الدولة إليه فى سعيها للاستقلال فهو الديمقراطية، ذلك أن الخبرة التأريخية علمتنا أن الاستبداد يفتح أبوابا واسعة للقيادة السياسية لتغيير المسار بما يحقق مصالح فئة محدودة ويتعارض مع الهوية والمصلحة العامة، وإذا كان الشعب المصرى فى مجمله معاديا لإسرائيل كما سبق، فمن الأرجح أن تقل فرص إعادة إنتاج سياسات تخضع مصر لإرادة أعدائها إذا توفرت للشعب إمكانية مراقبة تصرفات الحكومة ومحاسبتها والتأثير فيها.
فى الخبرة السياسية المصرية دروس، فثورة يوليو 1952 اتخذت موقفا جادا فى العداء لإسرائيل، وتبنت سياسات مؤيدة لهذا المسعى، وتنبهت لمركزية العدالة الاجتماعية فسعت لتحقيقها، بيد أن الفقر الديمقراطى لنظام يوليو أدى لاستبداد أعقبه ظهور الفساد، وحتى سياسات العدالة الاجتماعية أصبحت أقل فاعلية لافتقادها الرقابة والمحاسبة المجتمعية، ومكن الاستبداد الرئيس السادات من تغيير الدفة، فوقع اتفاقية السلام وتراجع دور الدولة فى تحقيق العدالة الاجتماعية من دون أن تكون هناك مقاومة حقيقية.
أخشى أن ينحصر تركيز الثورة المصرية فى تأمين الحريات السياسية والحقوق المدنية، وأن نغفل ما ينبغى التنبه إليه من مركزية العدالة الاجتماعية فى القضايا الوطنية المصرية، وأخشى أن يؤدى بنا ذلك إلى حيث كنا، فنجد أنظمتنا السياسية اضطرت مرة أخرى للاستناد لقوى غير صديقة لمصر، فنقع فى أسر قيود اقتصادية أو سياسية تمنعنا من استقلالنا الوطنى.