ولما كانت صانعة التشريعات لا تتسم والمقاييس أو الاشتراطات النموذجية المتطلبة حيالها، وقد عرضنا فى مقالين سابقين لما يؤثر على القانون فى مصر من تدخلات سياسية، وعدم توافر المتطلبات الدستورية، وهو ما يضعها فى مصاف القوانين غير الدستورية سواء كان ذلك من الناحية الشكلية« طريقة الإصدار – هيمنة السلطة التنفيذية – مخالفات بعدم النشر« أو كان ذلك بمخالفات موضوعية للحقوق الدستورية، وهو ما يعنى أن هذه القوانين أو القرارات بقوانين قد جارت على حقوق دستورية للمواطنين، وهذا ما يعود بنا إلى الموضوع الرئيسى فى كيفية صناعة القانون فى مصر، ومن هنا لابد من عرض للمعايير العلمية المتطلبة فى صناعة القوانين، ومن الممكن قسمة هذه تنقسم المعايير إلى فئتين هما:
< المعايير الشكلية «صياغة القانون»: ويقصد بصياغة أو صناعة القاعدة القانونية مجموعة الأدوات التى تُخرج القاعدة القانونية إلى الوجود العملى إخراجا يحقق الغاية التى يفصح عنها جوهرها بما يحقق الهدف من فرضها، ومن الممكن التعبير عن ذلك بمقولة القالب اللغوى الذى تُصب فيه القاعدة القانونية، والتى يجب أن تتوافر بها الإحاطة الكاملة بالأهداف والأغراض التى يهدف إليها المشرع عند وضع النصوص القانونية، وأن يتوافر لديه القدر المطلوب من التشريع المراد صناعته، ومدى ضرورته وجميع المعلومات المطلوبة عن موضوع التشريع ذاته، ويجب أن تكون فكرة التشريع ذاتها واضحة جلية أمام المشرع، حتى تصير كذلك أمام جمهور المخاطبين بأحكامها، ويجب أيضا ألا يعمد المشرع إلى استخدام عبارات واسعة المعنى يسهل تأويلها بأكثر من مدلول، والأمر الأخير بالغ الدقة والخطورة معا، حيث نرى دقة الأمر فى عدم احتمال التشريع لأكثر من تفسير أو معنى من الممكن الأخذ به، أو الذهاب بالتشريع لأبعد من الغرض الذى وُضع من أجله، والخطورة فى ذلك تكمن فى سهولة استخدام الصياغات الفضفاضة والمحتملة التأويل لأكثر من غرض أو معنى، وهو الأمر الذى تلوح خطورته فى التشريعات الجنائية تحديدا، لكونها تمثل قيودا على ممارسات المواطنين من ناحية، وتمثل فتحا للسلطة للزج بالتأويلات المختلفة وقتما ترغب حتى تضع بعض المواطنين قصدا فى وضع المحاكمة وفقا لتأويلاتها لهذه النصوص الفضفاضة، وهو ما عبرت عنه المحكمة الدستورية العليا بقولها: «إن الأصل فى النصوص العقابية هو أن تصاغ فى حدود ضيقة لضمان أن يكون تطبيقها محكما فقد صار من المحتم أن يكون تمييعها محظورا، ذلك أن عموم عباراتها واتساع قوالبها قد يصرفها إلى غير المقصود منها، فيتعين أن يكون النص العقابى حادا قاطعا لا يؤذن بتداخل معانيه كى لا تنداح دائرة التجريم، وتظل دوما فى إطار الدائرة التى يكفل الدستور فى نطاقها قواعد الحرية المنظمة» ــ حكم المحكمة الدستورية العليا جلسة 12 فبراير 1994 القضية 105 لسنة 12 قضائية دستورية ــ، ومن ثم يجب إجمالا استخدام اللغة البسيطة، التى تستعصى على التأويل، والبعد عن التراكيب اللغوية، والجمل المعقدة.
< المعايير الموضوعية: يجب أن يكون المشرع على علم كاف بالقواعد الدستورية والحقوقية الثابتة، وأن لا يعمد إلى مخالفتها، ويجب عليه البعد عن الغموض فى صياغة النصوص التشريعية وبشكل خاص العقابية منها، ويجب عليه أن يستهدف مصالح المواطنين حين استصدار أى قانون، ولا يكون الغرض من التشريع غير ذلك، ويجب بشكل رئيسى أن يكون مدركا وملما لموضوع التشريع، وأن يلجأ لاستشارة المتخصصين فى كل أمر على حدة، ويجب عليه من حيث الأصل أن يلجأ للمخاطبين بأحكام القانون محل الإصدار، فيما يسمى جلسات استشارية، وجلسات سماع للرأى، أو ما إلى ذلك، كما يجب على المشرع تعزيز القدرة التنافسية للتشريع، بمعنى اطلاع المشرع على تشريعات الدول المختلفة، والعمل على أن يكون تشريعه أكثر توافقا مع هذه التشريعات، بل على العكس أكثر رقيا عنها، وهو ما يمثل إطالة عمر هذه التشريع، وجعله مميزا بين تشريعات دول العالم.
وفى ختام الحلقات الثلاث عن كيفية صناعة التشريعات والوضع المصرى نأمل أن نرى لهذا الطرح صدى فى الواقع التشريعى المصرى احتراما للقواعد الدستورية، وسعيا للحفاظ على حقوق المواطنين وحرياتهم التى تمثل الغرض الأمثل من وجود الدولة ذاتها.