فى يوم 17 أغسطس الماضى ارتكب عددٌ من الشباب والصبية عملية إرهابية فى الوسط السياحى لمدينة برشلونة، عاصمة إقليم كتالونيا، فى إسبانيا. لم يعلن مرتكبو العملية ولا تركوا وراءهم ما يفيد بأسباب فعلتهم، ولكن «داعش» أعلنت مسئوليتها عن العملية كما أن ناطقا باسمها أعلن فى رسالة مصوّرة مسجّلة أنه «بإذن الله سترجع الأندلس ــ كما كانت ــ أرضا للخلافة»، وأضاف متوجها للمسيحيين الإسبان: «لا تنسوا دم المسلمين المراق فى أثناء فترة محاكم التفتيش الإسبانية»، ثم أردف فيما يخص الحاضر: «إننا سننتقم للمذبحة التى ترتكبونها فى الوقت الحالى ضد الدولة الإسلامية». متحدث ثانى باسم «داعش» دعا الله أن «يقبل تضحيات إخوتنا فى برشلونة»، وأضاف: «إن حربنا معكم ستستمر حتى نهاية العالم».
الدوافع إذن ليست تمييزا أو تهميشا يشكو منه الإرهابيون فى حياتهم وينتقمون من المجتمع «بسببه». الشاب ذو الاثنين والعشرين عاما، قائد السيارة التى دهست المارّة فقتلتهم أو أصابتهم شهد له الأصدقاء والجيران والمدرّسون، من المهاجرين القادمين من المغرب أو ذوى الأصول المغربية، ومن الإسبان أنفسهم، بأنه كان طبيعيا، خلوقا، ومجتهدا فى دراسته وعمله. هذه كلها صفات لشخص مندمج، لا يعانى من العزلة أو الاضطهاد. هذا الشاب وغيره فى مثل عمره وأصغر منه، كشقيقه الصبى ذى السبعة عشر عاما ليس إلّا، تأثروا بإمام مسجد بلدتهم وتآمروا معه فى الخفاء وبعيدا عن أعين أهاليهم. قتل هذا الإمام عشية عملية برشلونة فى انفجار أثناء التحضير لها، وهو كان فى الرابعة الأربعين من عمره، أى قادرا تماما على التأثير فى الشاب والصبية. أعضاء الطائفة الإسلامية فى برشلونة، بل وفى معظم مدن إسبانيا، تظاهروا منددين بالإرهاب ومتضامنين مع ضحاياه ورافضين لأن يلصق الإرهاب بالإسلام، ومشددين على أنهم مسالمون ويودّون الخير للجميع. يضطر سكان الدول الأوروبية من المسلمين، لأن يكرروا هذه الحجج مع كل عملية إرهابية ترتكب، ولكن تكرار الكلام، أى كلام وفى أى سياق، يُفقدُهُ مع الوقت معناه وتأثيره، ولذلك فإن حججا أكثر قوة للرفض الحقيقى للعمليات الإرهابية ستكون مطلوبة فى وقت ليس بعيدا. وهى مطلوبة بشكل خاص لأن لداعش هدفا تعمل بكثب على تحقيقه هو الوقيعة بين مسلمى أوروبا والبلدان التى يعيشون فيها وسكانها. داعش تريد حربا مفتوحة على المسلمين فى أوروبا لأن هذه الحرب فى تقديرها ستجعل المسلمين ينتقلون إلى صفوف مؤيديها ومناصريها وأعضائها.
***
من المفروغ منه أن أعضاء الطوائف الإسلامية ليسوا مسئولين عن العمليات الإرهابية ولا هم أطراف فى ارتكابها. ولكن الحجج الجديدة اللازمة لها لا بدّ أن تغوص إلى أعمق من سطح العمليات الإرهابية لتبلغ أصولها الفكرية. والحجج الجديدة ليست ضرورية لأعضاء الطوائف الإسلامية فى أوروبا وحدها بل إن الفكر فى بلادنا مطالب أيضا بالتمعّن فيها لأن العمليات الإرهابية لا ترتكب للانتقام للمغرب أو لتونس أو لغيرهما، وإنما للإسلام وللمسلمين وباسم التنظيم الذى ينسب نفسه لدولة إسلامية واحدة. فلنتفحّص جوهر الحجج التى جاءت على لسانى الناطقين باسم «داعش»، وهى حجج ليست «شرعية» وإنما هى تخص تفسير التاريخ وتطوره والعلاقات بين البشر، المنتصرين أياما والمندحرين أياما أخرى، ولكن العائشين معا دوما، والمتزايدين تقاربا مع الأيام والسنين والقرون.
فلننظر أولا فيما قيل عن أن الأندلس سترجع أرضا للخلافة. هذا قول غريب. لأى خلافة؟ كان للأندلس فى عزّها خليفتها الأموى المنفصل والمستقل تماما عن الخليفة العبّاسى فى بغداد، دعك من الخلفاء الفاطميين فى القاهرة. ولما حلّ ملوك الطوائف محلّ الخليفة الأندلسى فى أندلس إسلامية مجزأة وأصغر، لم يكونوا خاضعين لأى خليفة. وعندما وصلت الخلافة إلى العثمانيين فى الأستانة، فهى لم تكن تشمل بسلطتها أراض شاسعة يعيش فيها مسلمون ومنها المغرب الأقصى تحديدا، المغرب الذى يجىء أو ينحدر منه مرتكبو عملية برشلونة. لم يكن المسلمون كلهم موحدين تحت سلطة سياسية ولا دينية واحدة فى أغلب فترات التاريخ. التفسير المغالط للتاريخ يخصنا فى بلادنا لأن بيننا كثيرين يقدمونه على أنه حقيقة لا تقبل الجدال. ثم إن ثمة خطأ جوهريا فى عملية التفكير التى تنتج ألفاظا مثل أن أرضا ما سترجع إلى ما كانت عليه. لا شىء يرجع إلى ما كان عليه. وبافتراض أن وضعا ما يتشكل كما كان قبلها بسنين، أليس للزمن الذى يوجد فيه هذا الوضع أثرٌ؟ هل إن عدت أنتَ إلى نفس المكان والأشياء فيه بعد عشرين سنة سيكون للمكان وللأشياء نفس معناها بالنسبة إليك وقد تغيّرت أنت نفسك عضويا وذهنيا وتجربة؟ طريقة التفكير التى تضرب عرض الحائط بالزمن وبآثاره منتشرة عندنا ولذلك فإن مواجهتها بحقيقة خطئها تُهِمُّنا.
وننتقل إلى الحرب المستمرّة معهم «حتى نهاية العالم». هل يريد عاقلٌ منّا أن تنسبَ إلى المسلمين حربٌ مع كل من لا يشاركهم معتقداتهم حتى نهاية العالم؟ الحرب مع الأوروبيين لا بدّ أن تمتدّ إلى من يشاركونهم معتقداتهم فى بقاع أخرى من الأرض ثم، ومن باب أولى، إلى من يختلفون تماما معنا، ومعهم، فى المعتقدات، وإلى من ليست لديهم معتقدات دينية أصلا. لن نتحدث عن إمكانية الدخول فى حرب مفتوحة مع الجميع، فمجرد هذا الحديث يعنى القبول به من حيث المبدأ. الحديث هو عما إذا كان هذا المبدأ متصورا أو مقبولا.
***
إذا كان الأمرُ أمرَ التاريخ الاستعمارى الذى عانت منه بلادنا، فإن الانتقام والثأر من الدوافع الأولية المحركة لسلوك البشر فى المجتمعات التى لم تنعتق من بدائيتها وتخلفها بعد. الانتقام والثأر يكبلان البشر والمجتمعات ويحولان دون تقدمهم. ليس جديرا بنا ولا هو من مصلحتنا أن ننظر إلى الوراء دائما فتضيع علينا فرصة التطلع إلى المستقبل وبناء مكانة لنا فيه. السبيل إلى ذلك ليس بالعداء مع العالم أجمع ولكنه بمدّ الجسور والتعاون مع كل أصحاب المصلحة فى نشأة عالم أكثر عدالة، بما فى ذلك فى البلدان الأوروبية وغيرها. يغيب عن دعاة العداء أن المجتمعات الحديثة خصوصا متعددةُ التركيب، تختلف الرؤى فيها وتتباين، وبالمناسبة فهى بذلك تثريها.
مقاومة الاستعمار السافر فى كانت واجبة فى الماضى وكذلك لما تبقّى منه فى الحاضر، كما أن مكافحة أشكال الاستغلال الحديثة، استغلال دول لأخرى، وطبقات ومجموعات فى كل دولة لطبقات ومجموعات أخرى، ضرورة لا مراء فيها. ولكن هذه المكافحة ليست ببث الدمار والقتل وبشن حرب عشوائية على الآخرين. الدمار والقتل والحرب العشوائية هى تعبير عما بين اهتزاز الثقة فى النفس وفى قدراتها وانعدامها. مكافحة الاستغلال هى بترقيتنا لأنفسنا. الشعوب الراقية بالعلم والثقافة والجدية والبناء لا يستطيع أحدٌ استغلالها. التخلف وضعف الحيلة هو ما يغرى الآخرين باستغلال المصابين بهما. أفضل الحصون وأمنعها هى فى المساهمة فى حضارة البشر وفى أن يبحث الآخرون لديك عن قيمة تضيفها إلى حياتهم.
غير أن تعبيرا آخر عن ضعف الثقة فى النفس هو التوجس المستمر والمَرَضى من الآخرين والشك فيهم وفى أى علاقة تقام معهم. الحديث المستمر فى بلادنا عن «المؤامرة» التى تحاك لنا والزرع المتعمد فى قلوب الناس وعقولهم للخوف من الآخرين هو على صلة قرابة بفكرة الحرب المستمرة «حتى نهاية العالم»، وهو تعبير عن العجز عن الالتحام الإيجابى مع هؤلاء الآخرين، عجز مصدره شعور بأنك لا بدّ موضوع لفعل الآخرين وضحية لهم. هذا الشعور فى حدّ ذاته إهانة للنفس. وما لا يقلٌّ سوءا عن ذلك هو أن نتيجته المنطقية هى الانعزال عن الآخرين حيث الانعزال هو السبيل الوحيد لتجنب «المؤامرة». حقيقة الأمر هى أن الانعزال هو تكريس لتخلفنا وهو يجعل الانعتاق منها مستحيلا.
إن كنّا نريد البناء من أجل مستقبل أفضل فإنه لا بدّ أن نغرسَ فى الأساس الفكرى لمواقفنا التغلبَ على التوجس المرضى من الآخرين وإدانةَ فكرةِ الحرب المستمرة معهم.