تتعمق الفرقة الطائفية، والمذهبية خصوصا، فى منطقة المشرق العربى والخليج، وتشتد الكراهية المتبادلة، وكلاهما يشتعل صراعا عنيفا ومسلحا هنا وهناك. ما كان معروفا على أنه صراعات اقتصادية واجتماعية فى السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين أصبح فى نظر الكافة، وبشكل لا تناقش سلامته، صراعات مذهبية. أفضل الأمثلة على ذلك الصراع فى البحرين. تلك الجزيرة الصغيرة هى البلد العربى الوحيد الذى تغلب تماما على الأمية منذ عقود عديدة، والذى ترتقى فيه وضعية المرأة وممارستها لحقوقها.
للبحرين أن تفخر بذلك. ولكن فى البحرين حرمانا وتفاوتا فى مستوى المعيشة. فى السبعينيات والثمانينيات نشطت النقابات العمالية ومجموعات حقوق الإنسان للمطالبة بشروط للعمل وظروف أفضل حتى يمكن رفع مستوى المعيشة والقضاء على الحرمان. الصراع كان يتخذ شكلا طبقيا ولم يحدث اللجوء إلى العنف لحسمه، بل إن الأطراف المطالبة بتحسين شروط العمل كانت هى ذاتها المعروفة فى الدول المتقدمة الديمقراطية. نفس الصراع فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين أصبح «صراعا مذهبيا»! حقيقة الأمر هو أن الصراع ربما تحوّل إلى صراع بين أتباع المذهبين السُّنِّى والشيعى فى البحرين ولكنه بقى فى جوهره صراعا اقتصاديا واجتماعيا. غير أن الصراع عندما يعتبره أطرافه دينيا أو أيديولوجيا يصبح من شبه المستحيل اللجوء فى تسويته إلى الحلول الوسط ويصير العنف مآلا شبه محتم له.
•••
فى لبنان الصراع الذى بدأ وطنيا واجتماعيا، حفّزه الوجود الفلسطينى، فى منتصف السبعينيات من القرن العشرين سرعان ما تحوّل إلى صراع أهلى مسلح بين أتباع طوائفه السبع عشرة دام سبعة عشر عاما. التوجس والشك بين اللبنانيين المسلمين والمسيحيين كانا موجودين قبل الحرب واستمرّا بعدها، ولكن بشكل عام، وباستثناء فترة الحرب الأهلية الممتدة، بسندات إقليمية ودولية، عرف اللبنانيون كيف يديرون هذا الصراع. غير أن صراعا جدّ على لبنان واستعر فى العقد الأخير، ألا وهو الصراع بين اللبنانيين من أتباع المذهبين السنِّى والشيعى، الذى اتخذ شكل الكراهية المتبادلة المفتوحة، بل وتمدد الصراع ليتصل بالنزاع المسلح فى سوريا قرب الحدود بين البلدين. يهدد ذلك بأن ينفجر النزاع مسلحا إن عاجلا أو آجلا فى داخل الأراضى اللبنانية. التعبير الصارخ عن الصراع فى لبنان فى الوقت الحالى هو شلل النظام السياسى وانعدام قدرته على انتخاب رئيس جديد للجمهورية وبالتالى فراغ المنصب الأعلى فى البلاد.
•••
فى العراق، أقيم النظام السياسى فيما بعد 2003 على أسس طائفية وعرقية ومذهبية، فتفسخت وحدة النظام السياسى وتحللت البلاد إلى مكوناتها، واستأثر من مثلوا الأغلبية بالسلطة واستهانوا بالأقليات من أكبرها إلى أصغرها، فنشأ الصراع بين الأغلبية الشيعية والأقلية السنّية المعتبرة وما لبث أن أصبح الصراع اقتتالا لم يسبق له مثيل، فى العصر الحديث على الأقل، وهو صراع خبا لبعض الوقت ثم استعر من جديد فى السنة الأخيرة وتداخل مع النزاع المسلح فى سوريا واختلط به.
سوريا فى الوسط توحّد الصراع عبرها من العراق إلى لبنان، وهو ما لا يدع مجالا للشك بأن الصراع إقليمى الطابع، يؤكد ذلك ويغذيه استناد أطرافه بشكل أو بآخر، وبدرجات متفاوتة فى البلدان الثلاثة، إلى القوتين الإقليميتين الكبيرتين، السعودية وإيران. احترقت السلطة هنا وهناك فى البلدان الثلاثة والتهمت جانبا من الحدود بين سوريا والعراق ولكن ما تخبئه الأيام يمكن أن يكون نيرانا هائلة يتواضع إلى جانبها كل ما عرفته المنطقة حتى الآن. هل يريد أحد أن تنشب فى منطقتنا حروب دينية بعد أربعة قرون من وضع نهاية لمثيلاتها بين الكاثوليك والبروتستانت فى أوروبا؟ هل نريد أن نبدأ من حيث انتهت أوروبا وأن نعيش تاريخها الدموى؟ إن استعرت الحروب المذهبية فى منطقتنا فهى ستكون كارثة سياسية واقتصادية وإنسانية على كل من يعيش فيها أو بالقرب منها. لا بدّ أن يسمو أحد فوق الصراع المذهبى، وأن يبادر بالتوسط بين أطرافه، واقتراح الحلول عليهم، والتوفيق بينهم، وأن يكون نبراسه جمع كل الأطراف حول مشروع للسلام والأمن والتنمية لشعوب المنطقة.
لا يمكن أن يلعب هذا الدور غير مصر. الجهد الدءوب مستمر منذ سنوات طويلة لجذب مصر إلى الصراع المذهبى، ولكنه جهد بمثابة العبث، لأنه قد يكون فى مصر أفراد من الشيعة، ولكنهم يبقون كذلك أى أفرادا معدودين، ينبغى أن تكون لهم كل حقوق المواطنين، ولكنهم لا يشكلون طائفة لها أى وزن سياسى أو اجتماعى. الاختلافات فى العقيدة، فضلا عن أنها بعيدة تماما عن الجوهر فى حالة السنّة والشيعة «الإثنى عشرية»، فهى لم تكن يوما الأصل فى أى صراعات دينية أو طائفية، فيما بين المسيحين أو المسلمين أو فيما بين هؤلاء وأؤلئك. الدولة الصفوية فى إيران نفسها لم تعتنق المذهب الشيعى فى القرن السابع عشر لأسباب تتعلق بالعقيدة بل لحماية نفسها من الدولة العثمانية التى كانت فى عنفوانها فى ذلك الوقت. الصراع يحتاج إلى أطراف لينشأ والطرف الشيعى غير موجود فى مصر.
•••
غيبة الصراع المذهبى فى مصر يؤهلها للعب دور «الكبير» فى المنطقة، وللمبادرة بالأفكار، وللوساطة والتوفيق بين أطراف الصراع الإقليمى. قد يكون غائبا عن الكثيرين أن مصر لعبت من قبل دور الكبير هذا، عندما عهدت الطوائف اللبنانية فى سنة 1943 إلى رئيس وزراء مصر، الزعيم مصطفى النحاس، بأن يقترح على زعمائها صيغة الوفاق الوطنى، أى صيغة الأوزان النسبية للطوائف فى النظام السياسى عند استقلال لبنان. أما ما بين مصر وإيران، فقبل النصف الثانى من الخمسينيات وما تعلق بالموقف من إسرائيل، كانت بينهما علاقة انتماء واحد، وواجه كل منهما السيطرة الاستعمارية، وكما أمم جمال عبدالناصر قناة السويس، أمم محمد مصدق النفط فى إيران، وكافح البلدان بشكل متزامن من أجل الحكم الدستورى، وتلاقحت الثقافة الإسلامية فى كل منهما. الخلافات الحالية، التغلب التدريجى عليها أصبح ممكنا.
قد تستاء أطراف إقليمية قريبة من مصر إن رأتها تلعب أدوار الوساطة والتوفيق فى الإقليم، وقد تستنكف الدور أطراف دولية كبرى ولكن هذا الاستياء وهذا الاستنكاف سيكونان قصيرى الأجل. سرعان ما ستدرك هذه الأطراف الفوائد التى ستجنيها من مثل هذا الدور البناء.
مجرد الاضطلاع بهذا الدور سيرتب لمصر قيمة مضافة فى النظامين الإقليمى والدولى. المبادرة والوساطة والتوفيق ستضيف إلى مصر قوة فى هذين النظامين، قوة تحقق بها أهدافها الاقتصادية والسياسية.
بدلا من الاصطفاف فى صف من الصفوف والتفريط فى أسباب للقوة متوافرة لديها، على مصر أن تلعب أوراقها بمهارة هى قادرة عليها.
ولا شك أن الأساس الأخلاقى للدور التوفيقى الإقليمى سيدعمه بناء نظام سياسى واجتماعى مصرى يحتفل بتعدد مكوناته ويساوى فعلا بين مواطنيه ولا يميّز بينهم.