تحل الذكرى الأولى للثورة وليس ثمة خلاف فى أنها لم تنته بعد، وأن جل المقاصد التى خرج من أجلها الشعب قبل عام لم تتحقق، الأمر الذى يوجب على الجميع النظر لتحديد الإنجازات وأوجه القصور ومناقشة وسائل إنجاح الثورة التى بُذلت فيها أثمان غالية من الدماء.
وتقديرى أن الثورة أنجزت الكثير، وأول ذلك إنهاء حكم الفرعون، فخلع مبارك بعد ثلاثة عقود فى الحكم، وقصر الحد الأقصى للرئاسة على دورتين، يعنى إنهاء حكم الفرد المستبد، إذ لا يستطيع حاكم بغير تأبيد أن يمارس استبداد مبارك وسابقيه، ولن يتمكن حاكم من التراجع عن قصر مدة الرئاسة على دورتين، لأن القصر هذه المرة مكتسب بالدماء، وليس كما كان فى عهد السادات منة يمكن التراجع عنها.
ثم إن الثورة كسرت حاجز الخوف الذى أسكت المصريين عن مواجهة التعدى على حقوقهم، فانتصار الإرادة مرة يورث إيمانا بإمكان انتصارها فى كل مرة، وصورة الرئيس المخلوع ممددا فى قفص الاتهام ستبقى فى عقول المصريين دليلا على قدرتهم، و(تطبيع) حق التظاهر أعطى ملكية الشارع لملايين المصريين لا آلاف النشطاء الذين اعتادوه قبلا، ولم يبق من الخوف إلا بعض الأوهام فى عقول من اعتادوا القهر.
وبفضل دماء الشهداء شهدنا لأول مرة انتخابات برلمانية جاءت نتيجتها معبرة عن اختيارات المصريين، فلم تشهد تزويرا ممنهجا وإن شابها بعض القصور الإدارى الذى لابد من التنبه له وعلاجه، وشهدت مشاركة قياسية ممن لهم حق التصويت.
وإذا كان شعار (العدالة الاجتماعية) الذى حمله الثوار لم يتحول بعد لواقع ملموس، فإن ذلك لا ينفى نجاحهم فى فرض الأجندة الاجتماعية على المناقشات السياسية والاقتصادية، فصار الحديث عن الحدين الأدنى والأقصى للأجور من المسلمات، وتراجعت دعاوى إلغاء التعليم المجانى وخصخصة التأمين الصحى، بل توقفت بالكامل عمليات الخصخصة وبيع أصول الدولة ومواردها، وصار فرض ضرائب تصاعدية خيارا يحظى بقبول فئات واسعة بعدما كان الأمر استقر فى آخر عهد الرئيس المخلوع على نبذه.
وثمة إنجازات للثورة يتغافل عنها البعض، بل ويعتبرها بعضهم من آثارها السلبية، منها توسيع رقعة المشاركة السياسية لتشمل أطرافا كانت قبل ذلك محظورة، بما يعنى أن أبناء الوطن استعادوا ملكيته فصاروا جميعا على قدم سواء فيما يتعلق بتقرير مصيره، وهو ما يقوى شوكة الجماعة الوطنية ويزيد لحمتها على المديين المتوسط والبعيد، وإن كانت ثمة منغصات على المدى القريب فمردها لقلة خبرة الأطراف حديثة العهد بالمشاركة السياسية، نتيجة تهميشها طيلة العقود الماضية.
ورغم هذه الإنجازات يبقى طريق الثورة طويلا، فلا يزال الحكم مرهونا بإرادة عسكرية غير منتخبة، ولم يزل الوطن يعانى ظلما اجتماعيا عميقا يتجلى فى تنامى فجوات الدخل، وعجز الدولة عن تقديم الخدمات الرئيسية للمواطنين من صحة وتعليم وسكن ومأكل، وأجهزة الدولة المصرية لا تزال هيكلتها تحد من سيادة الشعب على مؤسساته الدستورية، ولا تزال السياسة الخارجية بلا تغييرات جوهرية، تدور فى فلك مشروع «الاعتدال» المهادن لإسرائيل.
واستكمال الثورة إذن يعنى توسيع رقعة سيادة الشعب لتشمل جميع المؤسسات بما فيها العسكرية، فتكون خاضعة فى شئونها الإدارية غير الفنية لرقابة نواب الشعب، وتعميقها بحيث يصير الشعب أكثر قدرة على محاسبة هؤلاء النواب ومشاركتهم صنع القرار، وتعميق الديمقراطية من خلال إعادة هيكلة أجهزة الدولة بما يفتح آفاقا أوسع للمشاركة والتأثير الشعبيين، وتعزيز العدالة الاجتماعية من خلال دور أكثر فاعلية للدولة فى إعادة توزيع الثروة، وفى حماية حقوق المهمشين، وتوكيد استقلال الوطن من خلال سياسة خارجية تخرجه من فلك أعدائه وتعيده قائدا للمشروع التحررى.
وتلك الأهداف تأخر تحقيقها لأسباب عدة، أولها غياب التنظيم فى القوى الثورية، الأمر الذى أعجز الثوار عن استلام السلطة عند خلع مبارك فلم يبق إلا المجلس العسكرى ليستلمها، ولما كانت قضية الثورة الأولى هى السلطة (بدونها لا تصير ثورة وتعجز عن تحقيق أهدافها)، فقد تعطل مسار الثورة منذ فبراير الماضى، ولم يتغير هذا الوضع إلا حديثا بمشاركة بعض القوى الثورية فى السلطة عن طريق وجودهم فى البرلمان، الذى يشارك السلطة مع المجلس العسكرى، والمرحلة الانتقالية للثورة إنما بدأت بهذه المشاركة، وتنتهى عندما يتمكن الثوار من السلطة بالكامل، وهو أمر سيستغرق سنوات.
ثانى الأسباب هو بطء الثورة فى إفراز قيادات تعبر عن توجهاتها، وهو ما أدى لاستمرار النخب القديمة فى صدارة المشهد السياسى، وهى نخب تفتقد القدرة على التعامل مع اللحظة وتحدياتها الجديدة فتلجأ لما تجيده من صراعات قديمة، كالصراع الإسلامى ــ العلمانى الذى تصدر الجدل على حساب الصراع بين مشروعى الاستقلال والتبعية الذى يمثل تحديا رئيسا تواجهه مصر، وليست النخبة القديمة مسألة عمرية بقدر ما هى حالة فكرية لمن وقعوا فى أسر حسابات النظام الذى ثار عليه الشعب.
وكان عدم تفكيك الثوار لمؤسسات الاستبداد العميقة فى مصر سببا ثالثا فى تعطل مسار الثورة، فقد قام النظام منذ ستين سنة على مؤسسة إعلامية تضلل الناس وتشوه عقولهم، ومؤسسة أمنية ترهبهم وتراقبهم، ومؤسسة حزبية تجمع المستفيدين من استمرار الوضع القائم، فجمعت فى آخر فترة من حكم مبارك كبار رجال الدولة وكبار رجال الأعمال، وتلك المؤسسات ظلت عصية على الإصلاح، وأثبتت فى كل اختبار انحيازها للسلطة ضد الشعب، وتبعيتها الكاملة غير المهنية ولا القانونية لإرادة المتمكنين من الحكم، وأقصد بهم الدولة العميقة لا الأطراف الموجودة فى الحكومة فحسب.
والتنبه لتلك المشكلات يوجب على الثوار العمل لعلاجها لضمان إنجاح الثورة، ويكون ذلك من خلال العمل على تحقيق قدر أكبر من السيطرة على مؤسسات الدولة، من خلال التعجيل بالانتخابات الرئاسية لإخراج العسكر من الحكم، ثم كتابة دستور يصون سيادة الشعب على جميع مؤسساته الدستورية، ويخضع المعين فيها للمنتخب، والتعجيل بإجراء الانتخابات المحلية التى تساهم فى تحرير المجتمع وبث الحيوية فيه، كما تساهم فى صناعة نخبة سياسية جديدة أقدر على التعامل مع مشكلات الناس والتعبير عن آمالهم وتطلعاتهم.
كما يحتاج إنجاح الثورة من القوى الثورية إلى الالتفات عن القضايا الثانوية والتركيز على القضايا الرئيسة، وأهمها قضية الاستقلال الوطنى وما تتطلبه وتعنيه على صعيد السياسة الخارجية والاقتصاد والديمقراطية، وتجنب الإغراق فى صراعات قشرية تفتت القوى الوطنية وتفض الشارع من حول الثوار.
والمسئولية الأكبر على الثوار هى التفاؤل، فبدونه لا تتحرك الهمم، وهو شعور لا يملك غيره من رأى خروج المصريين للميادين، وتمكنهم مما تنبأ الجميع بعجزهم عنه، وتواطأ العالم ضدهم فيه، وهو خلع مبارك، وإذا كانت الشهور الماضية قد كانت قاسية علينا بنزيف الدماء ومسلسل فقد العيون، فإن تلك الدماء على قسوتها تورث الألم من غير أن تفقد الأمل، بل هى تزيد أولى العزم عزما على استكمال ما بدأه الشهداء والمصابون، وفاء لدمائهم، ودفاعا عن حلم الثورة.