كثيرون بين أنصار ثورة يناير يشددون على أن سبل الثورات متعرجة وأنها تستغرق أوقاتا فى تحقيق مقاصدها. آخرون صاروا يعتبرون أن عدم تحقيق الثورة لمقاصدها هو فشل، وأخذوا يتساءلون عن أسباب هذا الفشل، ويجتهدون فى الردّ على السؤال، محمِلين المجلس الأعلى للقوات المسلحة تارةً والإخوان المسلمين تارةً أخرى المسئولية عنه.
فى شأن هذا التباين، يثور سؤال: ما هو الذى لم تحققه الثورة بعد أو هى فشلت فى تحقيقه؟ الزعم هنا هو أن مقاصد
الثورة لم تصغ بشكل صريح ولا هى كانت واضحة تماما فى أذهان من أشعلوا جذوتها ومن نفخوا فيها. فى المقابل، خصوم الثورة والمتحفظون عليها افترضوا أنه إن تركت الثورة تتطور، وتُنضجُ أفكارَها، وتُبلورُ زعماءً لها فإن الفرص ليست قليلة لأن تئول إلى نظام سياسى هو النقيض لتصوراتهم الراسخة التى لا يحيدون عنها. لم تكن للثورة خطةٌ، بينما سارع خصومها برسم الخطط لدحضها وتنفيذها.
***
عند الحديث عن فشل الثورة سرعان ما يشار إلى الشعارات التى لم تتحقق. أول ما يقال هنا هو أن الشعارات تجمِّع الناس، وتثير حماسهم، وهى ربما عبَّرت عن تطلعات لهم ولكنها ليست أهدافا محددةً يعمل القائلون بها على تحقيقها. الشعارات صاغها بعض من كانوا فى قلب الثورة ولكنها اتخذت أكثر من صيغة بعد ذلك. بالنسبة للبعض هى «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، وبالنسبة للبعض الآخر هى «حرية، كرامة، عدالة اجتماعية»، وفريق ثالث، ليحلّ هذا الاختلاف جمع المصطلحات الأربعة وجعل الشعار رباعيا. هذا التباين بين الصيغ انعكس بعد سنوات فى اختلاف فى التقدير بين بعض من أنصار الثورة: هل قامت الثورة أساسا من أجل التصدّى للمسألة الاجتماعية والتفاوت الاقتصادى، أم كان مقصدها انتزاع الحرية للشعب وتأسيس نظام سياسى تكون هذه الحرية هواءه؟ فى السنوات السابقة على يناير، كان جوهر الحراك السياسى هو رفض كل من التوريث وديمومة رئيس الجمهورية فى الحكم، مع دعوة إلى التغيير فى اتجاه نظافة العملية السياسية وعدالتها، ولكن هذا الحراك لم يتطرق إلى إنشاء نظام سياسى جديد تماما وهو ما تفضى إليه الثورات، أى ثورات. لم يتطرق الفكر السياسى المصرى السابق على الثورة، ولا الاجتهاد التطبيقى، إلا لماما إلى مسألة إنشاء نظام سياسى جديد وضرورته وفلسفته، وإلى إضفاء الشرعية القانونية والأخلاقية على التعددية الموجودة بالفعل فى المجتمع. هذه الشرعية القانونية والأخلاقية للتعددية هى صلب الديمقراطية التى غابت أيضا كمصطلحٍ عن شعارات الثورة. فى ثنايا الحركات الاحتجاجية قبل الثورة ثم فى مواقف محركى الثورة بعد اندلاعها مطالب بالتعددية والديمقراطية ولكنها مطالب غير معلنة بصراحة لا لبس فيها ولا تفصيل. قد يرجع ذلك إلى القصف المستمر لعقود بعد عقود على فكرة الديمقراطية التعددية والتنديد بها بل واعتبارها خروجا على الوطنية والإخلاص للشعب، كما قد يعود إلى اختلاف مشارب المشاركين فى الحركات الاحتجاجية ومحركى الثورة الذين تأثر كثير منهم بالقصف، وهو ما يمكن التماس العذر لهم فيه، بل وربما شارك بعضهم فى إطلاقه. كان من بين هؤلاء وأولئك من يحنّون إلى «تحالف قوى الشعب العامل» أو من يصعب عليهم الإقرار علنا بالتخلّى عن فكرته، ومن تمسكت أهدابهم العاطفية بفكرة «الحزب الطليعى»، أما أنصار التعددية الأصليون فيبدو أن كثيرين من بينهم كانوا على حذر، متخوفين من مواصلة القصف عليهم وعلى أفكارهم. الرفق بأنصار التعددية الأصليين يمكن أن يكون مفهوما فلقد أبقوا على أفكارهم حيّةً بالرغم من كل ما تعرضت له هذه الأفكار، بل إنهم اكتسبوا لها أنصارا من الشباب يصح التساؤل عن كيفية وصولها إليهم على الرغم من الغارات المستمرة عليها.
***
خصوم التعددية سرعان ما تحركوا. الإخوان المسلمون، الذين وضعت حركاتٌ احتجاجية وثورية أياديها فى أيديهم، لم يضيّعوا وقتا معتمدين على التنظيم القوى الذى أتيحت لهم الفرصة لإنشائه وتنميته وتنويعه منذ السبعينيات من القرن الماضى. هم شاركوا فى تهيئة الأجواء لتحقيق المقصد الصريح لإسقاط رئيس الجمهورية فى 11 فبراير، والذى هوى معه النظام الدستورى القائم منذ سنة 1971، ثم استعدوا وبسرعة لوراثته كاملا، متجاهلين أطراف المجتمع السياسى المتعددة والتعددية الأخرى. المجلس الأعلى للقوات المسلحة وضع اللمسات الأخيرة والحاسمة فى الإطاحة بالرئيس الأسبق فى 11 فبراير. ولكن المجلس الأعلى لم يكن مستعدا لنشأة نظام سياسى جديد تماما، خاصةً إن كان نظاما يجسِّد التعددية ويضفى الشرعية عليها. التعددية لم تكن مقبولةً فى التصورات السياسية للمجلس الأعلى ولما ورثه ومثله، وهو ما يعود أصله للخمسينيات من القرن الماضى. ولقد قصّ المرحوم الأستاذ صلاح عيسى الأسباب التى دعت ثورة 1952 إلى إلقاء مشروع دستور سنة 1954 التعددى فى «صندوق القمامة»، واستبدال دستور يناير 1956 به، دستور 1956 الذى أنشأ نظاما سياسيا جمّع السلطات فى السلطة التنفيذية وفى يدى رئيس الجمهورية تحديدا. يبدو أن هذا النظام السلطوى، لأنه يجمّع السلطات، لم يكن ممكنا للمجلس الأعلى ولا لمن مثله أن يتصوروا غيره.
ظنّ الإخوان المسلمون أنهم نجحوا فى إبعاد الثوار المتعددين والتعدديين وفى إنشاء النظام السياسى الذى يناسبهم وفى الاستئثار بالسلطات، ولكنهم كانوا فى ظنهم مخطئين، فتنظيمهم رغم قوته لم يكن الأكثر قوة فى البلاد، ثم هم افتقروا إلى أى أفكار محددة عن الحكم، وأخيرا تهيأ لهم أن شعبيتَهم كاسحةٌ وهى لم تكن كذلك. رفض الإخوان المسلمون التآلف الفعلى مع غيرهم من القوى السياسية، فسقطوا فى حفرة من صنعهم فى يوليو 2013. حاشا لله أن يكون هذا تشفيا فيهم فى محنتهم. هذا مجرد تشخيص للأخطاء التى وقع فيها تنظيم الإخوان المسلمين، أما الأفراد فلا بدّ من وضع حدّ للمحنة التى يمرّون بها.
***
التآلف الذى تعالى عليه الإخوان المسلمون نشأ فى يوليو 2013 فى حكومة ضمّت أعضاء تعدديين صرحاء، أو ذوى توجهات تعددية، إلى جانب آخرين من أنصار نظام 1956 السلطوى أو ممن لا يلقون بالًا لمثل هذه «الترهات». فى ظل هذا التآلف تباحث ممثلو الشعب، الذين حدد أسلوب اختيارهم الإعلان الدستورى الصادر فى يوليو 2013، وتفاوضوا بشأن صياغة دستور جديد، فنتج دستور سنة 2014 الذى اعتمده الشعب بأغلبية ساحقة. هذا الدستور جمع ما بين سمات من النظام السلطوى الذى نشأ فى سنة 1956، مثل العلاقة بين الدولة والمجتمع بل وزاد عليها أحكاما تزيده سلطويةً لم ترد فى نفس دستور 1956 بل ولا فى دستور 1971، وخصائص تعددية أكيدة تذكِّرُ بمشروع دستور سنة 1954، خاصة فيما يتعلق بالحقوق والحريات. إلا أنه ما الذى حدث بعد صدور الدستور؟ رويدًا رويدًا خرج التعدديون من الحكومة وانتهى الائتلاف. أما الدستور، فإن واقع الممارسة السياسية يعود به وبالنظام السياسى إلى السلطوية بل يزيده منها أقدارا. أنظر فقط إلى القيود على الحريات التى فرضتها قوانين التظاهر، والجمعيات الأهلية، ومكافحة الإرهاب، ثم تمعّن فى القانون الانتخابى وفى طريقة تشكيل البرلمان وفى تشكيله وفى مزاولته «لوظائفه»، وانتبه إلى ممارسات الصحافة وغيرها من وسائط الاتصال المملوكة للدولة أو للقطاع الخاص الناشئ بمال عام، ثم تأمل فى العودة الفعلية إلى الاستفتاء على شخص رئيس الجمهورية.
ليس ثمة تناقض بين أن تقوم الثورة لأسباب الحرية أو العدالة الاجتماعية. الحرية مطلوبة لأنها ضرورية، حتى وإن لم تكن كافيةً، لنشأة نظام سياسى مفتوح وكفء يستطيع التصدى بخيال وفاعلية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الداخلية والخارجية، ومنها الإرهاب، التى تعترض حياة المجتمع. النظام المغلق، الذى تتقطع فيه الوصائل بين الأفراد، ويحال بينهم وبين التنظيم السياسى والاجتماعى، وتواجه العراقيل انتقال المعلومات بينهم، فضلا عن إنتاجها، هو نظام عاجز ولنا عبرة فى المشكلات التى تفاقمت لدينا فى العقود الأخيرة فى ظل نظام سياسى مغلق. النظام السياسى المفتوح الحق لا يمكن إلا أن تكون العدالة الاجتماعية قضيته الأولى. للعدالة باعث أخلاقى، فضلا عن أن المجتمع الذى تغيب عنه هو مجتمع يحرم نفسه من أفضل مساهمات البشر الأعضاء فيه، وأخيرا فإن مجتمعا يفتقر إلى العدالة الاجتماعية هو مجتمع مختل التوازن لا يمكن صيانة التعايش والاستقرار فيه إلا بممارسة العنف والقمع.
سواء كانت ثورة يناير قد فشلت أو هى مازالت فى مسالكها المتعرجة، فإن الوطنيين مطالبون بأن يطوروا فكرا ديمقراطيا يؤمن قيام نظام تعددى مستدام يحقق العدالة الاجتماعية ويتصدّى بكفاءة للمشكلات العديدة التى تعترض مجتمعنا.
التعددية والعدالة الاجتماعية ضروريان للمستقبل.