قال رسولنا الكريم محمد (ص): «القضاة ثلاثة.. قاضيان فى النار، وقاض فى الجنة.. قاض قضى بالهوى فهو فى النار، وقاض قضى بغير علم فهو فى النار، وقاض قضى بالحق فهو فى الجنة»، ويقول الكاتب الصحفى الكبير الأستاذ محمد العزبى إن «الصحفيين والكتاب والإعلاميين لن يدخلوا الجنة.. إلا إذا اعتزلوا».
العزبى الذى حاول طوال سنوات عمره أن يكون منحازا إلى البسطاء علّه يدخل الجنة، أشار فى كتابه الجديد «هل يدخل الصحفيون الجنة؟»، إلى أن الصحف والمجلات والتوك شو وأشباهها لا تصدر إلا فى «جهنم وبئس المصير»، داعيا أبناء هذه المهنة إلى الاعتزال إذا أردوا الجنة «وأنا أولكم يرحمكم الله».
الحقيقة ضالة الصحفيين والقضاة، لا يبغون شيئا سواها، فعندما تتحكم الأهواء أو الجهل فيما يصدر عن هؤلاء وأولئك من أحكام أو آراء يكون مأواهم جهنم وبئس المصير «جزاء بما كانوا يكسبون»، وفى الأزمان الغابرة والحاضرة ما أكثر من يضله جهله ويتحكم فيما يصدره من أحكام وآراء هواه من أصحاب مهنتى البحث عن الحقيقة، فبئس العاقبة لكل من حاد وضل.
العزبى وهو مشروع طبيب لم يكتمل، حيث دخل مع زميله حمدى قنديل كلية طب قصر العينى عام 1949 وانتقل بعد رسوبه فى السنة الثانية إلى قسم الصحافة بكلية الآداب، يرثى فى كتابه الصادر عن دار «ريشة للنشر والتوزيع» حال الصحافة والإعلام بأسلوب سلس، ويضع يده على مواضع الخلل التى أصابت المهنة فى السنوات الأخيرة وهو ما انعكس على أرقام توزيع الصحف التى وصلت إلى الحضيض بسبب ضعف مستوى المحتوى الذى تأثر بسبب غياب الحرية.
يتنقل العزبى برشاقة بين ما يكتبه زملاؤه وتلاميذه عن أسباب تخلف وتراجع الصحافة المصرية، فينقل عن دراسة لزملينا الدكتور ياسر ثابت ــ نشرها قبل سنوات ــ فيقول: مع تعاظم دور الإعلام فى ثورة يناير الذى بلغ ذروته مع ثورة يونيو، رأينا رؤساء تحرير صحف وكُتاب يتصرفون كأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، وبعد أن كان العمود الصحفى فى الماضى احتكارا أصبح احتقارا!، كما تورط صحفيون وإعلاميون فى عمليات تزييف وعى الناس.
ويشير إلى أن الدول المتقدمة ليس لديها صحفى زاعق يصرخ فى الناس ويهين المسئولين ويستبيح أعراضهم بدعوى الدفاع عن الوطن، أو كاتب صحفى جاهل يكذب دائما دون عقاب بحجة أنه يحب الوطن!.
فى غياب السياسة تقدم الإعلام المرئى لملء الفراغ فاحتل التلفزيون مكان الحزب السياسى، وأحيانا يقدم خدمات رائعة لاغتيال المعارضين معنويا وشعبيا، يسمون النشطاء «نشتاء»، والحقوقيين «حكوكيين»، والوطنيين، «نحانيح»، يضيف الكاتب الكبير.
جمع العزبى فى كتابه عددا من مقالاته المنشورة وغير المنشورة، حاول خلالها استعراض علاقة الصحافة والسلطة باعتبارهما «الإخوة الأعداء»، يتربص كل منهما بالآخر، «رصاص بالكلمات وبطش بغير قانون».
فى كتاب سابق له وصف العزبى العلاقة بين الصحافة والسلطة بأنها «صراع بين القط والفأر.. فالصحافة دورها النبش وكشف المستور وتوجيه النقد.. والحكم كتوم يسعى إلى فرض السيطرة وغلق الأبواب»، ويرى أن موقف الأنظمة من الصحافة واحد فى كل العهود التى عاصرها، مع اختلاف القبضة، «مرة قوية، وأخرى غشيمة، وثالثة ذكية تسمح ببعض الحريات نتيجة الضغوط والظروف».
لأكثر من 6 عقود عايش العزبى تقلبات السياسة وانعكاساتها على الصحافة، عاصر أربعة أنظمة حكم، وتعامل مع كل أنواع الرقابة من «الرقابة على المطبوعات مرورا بالرقيب الضابط، ثم انتقال المهمة إلى رؤساء التحرير، وصولا إلى الرقيب الشبح الذى يتحكم فى المسموح والممنوع عبر وسائل الاتصال الاجتماعى الجديدة».
رغم تجاوزه التسعين من عمره، إلا أن الأستاذ العزبى لا يزال ذهنه حاضرا ولا يزال شغفه بالصحافة والحرية قائما، يتصل بكاتب تلك السطور من آن إلى آخر لمعرفة ما يدور فى كواليس المهنة وإلى ما وصلت إليه أحوالها، يسأل عما لا ينشر وأسباب عدم النشر وعن الخطوط الحمراء والزرقاء والسوداء، ويستفسر عن نقابتنا وشئونها وخلافات مجالسها.
يدعو العزبى فى كتابه أهل المهنة إلى الاعتزال حتى يدخلوا الجنة وهو أولنا، وأنا على يقين أنه لن يجرؤ على اتخاذ هذا القرار، فالصحافة تسرى فى دمائه واعتزالها هو قرار انتحار أعتقد أن العزبى أبعد ما يكون إليه.
كما أننى على يقين أن العزبى وأمثاله ممن دفعوا ضريبة الوطن من حرياتهم وأقواتهم سيدخلون الجنة، فكما قال نبينا الكريم «قاضيان فى النار، وقاض فى الجنة»، فبالمثل.. صحفيان فى النار وصحفى فى الجنة.. وكل نفس بما كسبت رهينة.