لا يزال قطاع عريض من مسلمى هذا الزمان، يعتقد أن المقصد من الصيام، إنما ينحصر فى الإحساس بمعاناة الفقراء، والمساكين، والمحرومين، عبر مشاطرتهم الشعور القاسى بالجوع، أياما معدودات. فى وقت تكابد غالبية ديار الإسلام، تفاقما فى أزمة انعدام الأمن الغذائى؛ جراء الحرب الروسية ــ الأوكرانية، واستمرار تداعيات جائحة «كوفيدــ19» وانبعاث النزاعات وتجدد الصراعات، واضطراب سلاسل الإمدادات. علاوة على الكوارث الطبيعية المتعلقة بتغير المناخ، كمثل التصحر، والجفاف، والزلازل والفيضانات. أما بعض المعنيين بتعزيز الجسور ما بين العلم والإيمان، فيروق لهم تسليط الضوء على بعض الفوائد الصحية للصوم، مثل: تقليص مستويات السكر والكوليسترول الضار فى الدم، وحرق الدهون، وتنقية الجسم من السموم، والإسهام فى علاج ارتفاع ضغط الدم، كما بعض الأمراض المستعصية.
لكن الغاية الحقيقية من الصيام، تأبى إلا التحليق فيما وراء هكذا مقاربات. ففى الآية الثالثة والثمانين بعد المائة، من سورة البقرة، يبين لنا رب العزة، تبارك وتعالى، الحكمة من صوم رمضان. حيث يقول، عز من قائل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». ويفصح التفسيرالمبسط للآية الكريمة، عن العبرة الحقيقية من فريضة الصوم. بحيث تتجلى فى الارتقاء بالنفس، والسمو بالروح، توطئة لبلوغ أعلى مراتب التقوى، والورع، واليقين. فالصيام يُعين المسلم ويوطنه على ذلك، حتى إذا أصاب التقوى، يكون قد أدرك الغاية المثلى من صوم رمضان، بل ومن العبادات كافة. حيث يقول ربنا، تجلت حكمته، فى الآية الحادية والعشرين من سورة البقرة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». وقد أورد ربنا، سبحانه وتعالى، فى ستة مواضع من كتابه الكريم تعبير «لعلكم تتقون»، مرتبطا بأحكام وعبادات. ما يؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن بغية العبادة لله، إنما تكمن فى بلوغ تقواه، جل فى علاه.
ينطوى الصوم على تزكية للذات والبدن، عبرتضييق مسالك الشيطان. ولهذا، جاء فى الصحيحين ،عن عبدالله بن مسعود، رضى الله عنه، مرفوعا، أن المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج. ومن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجَاءٌ. «متفق عليه». والمقصود بالباءة، الزواج. أما، وجاء، فتعنى الوقاية، أو الحصانة، أو النجاة من السقوط فى براثن الشرور والمعاصى. فحرى بالمؤمن التحصن ضد الوقوع فى الذنوب والخطايا، والتعفف عن الانجرار إلى الذلل. وكما هو معلوم، تتفاقم ملاحقة الموبقات للإنسان عند اشتداد الشهوة وضعف الإيمان. ولما كان الشباب هم الأكثر عرضة لصراع الشهوات مع الإيمان، فقد خاطبهم النبى صلى الله عليه وسلم، آخذا بأيديهم إلى طريق العفاف. حيث أرشدهم ونصحهم بأن من يجد منهم مؤنة النكاح؛ من المهر، والنفقة، والسكن، والعافية، فليتزوج. لأن الزواج يغض البصر عن النظر المحرم، ويحصن الفرج عن الفواحش. ونصح، المعصوم، صلى الله عليه وسلم، من لم تتوفر له شروط النكاح، وهو تائق إليه، بالصوم. ففيه الأجر، وكبح جماح شهوة الجماع، وإضعافها بترك الطعام والشراب. حيث تضعف النفس، وتنسد مجارى الدم التى يمرق منها الشيطان.
يصنف، الإمام الغزالى، الصوم على ثلاث مراتب: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. فأما صوم العموم، فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وأما صوم الخصوص: فهو كف النظر، واللسان، واليد، والرِّجل، والسمع، وسائر الجوارح والحواس عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص، فهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة، والأفكارالمُبعدة عن الله تعالى، وكفه عما سوى الله تعالى بالكلية.
التقوى لغة، مأخوذة من الوقاية، وما يحمى به الإنسان نفسه. وتُعرّف، اصطلاحا، بأنها، التزام المسلم أوامر مولاه، واجتنابه نواهيه. فيقوم بالواجبات، والمندوبات ويترك المُحرّمات، والمكروهات، ويجعل بينه وبين ما حرّم الله، واقيا يَجنبه غضبه ويعصمه من عقابه. وأن يقى نفسه من الوقوع بالمعاصى، وشُبهات الدنيا. وقد قيل فى التّقوى، إنها ابتغاء المسلم فى عمله الصّالح، رضا ربه وحده، دون سواه. وفى تعريفه الجامع المانع للتقوى، يقول الإمام علَى، رضى الله عنه، وكرم وجهه: التقوى هى الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. وقال ابن عباس، رضى الله عنهما: «المتقون، هم الذين يحذرون من الله وعقوبته». وفى تفسيره قول المولى، تقدست أسماؤه، فى الآية الثانية بعد المائة من سورة آل عمران: «يا أيها الذين آمنوا اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ»، يقول بن مسعود، رضى الله عنه: يقصد بتقوى الله حق التقوى، «أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يُشكر فلا يُكفر». ولما سأل أمير المؤمنين عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه، الصحابيَ الجليل، أُبى بن كعب، رضى الله عنه، عن معنى التقوى؟ فقال: يا أمير المؤمنين: أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال: بلى.. قال: فما صنعت؟ قال: شمّرتُ واتقيت، قال أُبى: فذلك التقوى. وقال طلق بن حبيب: «التقوى، أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقابه».
تقوم التقوى فى جوهرها على استحضار القلب لعظمة الله تعالى، واستشعار هيبته وجلاله وكبريائه، والخشية لمقامه، والخوف من حسابه وعذابه. فالتقوى: هى جعل النفس فى وقاية، أى أن يجدك الله فى مواضع طاعته، ويفتقدك فى كل مواضع معصيته. فالتقوى: اسم جامع لطاعة الله والعمل بها فى شتى أوامره ونواهيه. فإذا انتهى المؤمن عما نهاه الله وعمل بما أمره، فقد أطاع خالقه واتقاه. ولا ينحصر نطاق التقوى فى اجتناب الكبائر فحسب، بل يمتد ليشمل كل ما فيه معنى المخالفة لأوامر الله، حتى لو كان من اللمم، أو صغائر الذنوب. وقد وعى الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم، ذلك، فقال قائلهم: «لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر لمن عصيت». بل إنهم جعلوا من تمام معناها، أن تتضمن الورع عن بعض ما هو طيب أو حلال، حذرا من مقاربة الحرام. وفى ذلك يقول، أبو الدرداء، رضى الله عنه: «تمام التقوى، أن يتقى العبد ربه، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراما».
ربما لا يدانى منزلة التقوى فى الإسلام، سوى الإيمان بالله. وليس أدل على عظم مكانة التقوى فى ديننا الحنيف، من أن يجعلها الحق، تبارك وتعالى، أساسا وشرطا لقبوله عبادات خلقه وأعمالهم الصالحة. بل ومجازاتهم عليها، بمنحهم صفة التقوى وإدخالهم زمرة المتقين. حيث يقول، تجلت عظمته، فى الآية السابعة والعشرين من سورة المائدة: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ». لذا، طالب الحق، جل وعلا، عباده المؤمنين، فى غير موضع قرآنى كريم، الاعتصام بالتقوى. ففى الآية الحادية والأربعين من سورة البقرة، يأمرعباده بتقواه قائلا: «وإياى فاتقون». وفى الآية السابعة والتسعين بعد المائة، من نفس السورة: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى». وفى الآية الثانية بعد المائة من سورة آل عمران: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ». وفى الآية الحادية والثلاثين بعد المائة من سورة النساء: «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ الله». وفى الآية السادسة والعشرين من سورة الأعراف: «وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ». وفى الآية الثالثة عشر من سورة الحجرات: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ».