«إذا كان يمكن لصندوق النقد الدولى أن ينحاز للملائكة.. لماذا لا تستطيع كندا؟». هكذا علقت منظمة أوكسفام الدولية والمعنية بقضايا الفقر العالمى، على الجدل الكبير الذى ساد اجتماعات مجموعات السبع والعشرين ثم الصندوق فى الأيام الماضية حول دعوة الأخير لفرض ضرائب على البنوك والقطاع المالى لتمويل حزم الإنقاذ الاقتصادى فى المستقبل، التى رفضتها كندا.
ولطالما عارض الصندوق هذا النوع من الإجراءات، التى ارتبطت بحركة مناهضة العولمة، أو الحركة «ضد الرأسمالية» فى تسمية أخرى، خلال العقد الماضى. وكان بند فرض ضرائب على أسواق المال بندا أساسيا على جدول أعمال حركة «أتاك» التى بزغت من فرنسا لتمويل ميزانيات الدول للقيام بدورها الاجتماعى فى التعليم والصحة ومحاربة الفقر.
لكن الأزمة العالمية فى نهاية عام 2008 غيرت الكثير. فها هو الصندوق فى تقرير مهم، صاحب صدوره الاجتماعات، يتبنى فرض ضريبة على أرباح البنوك وعلى ميزانياتها، فيما لا يخص التجزئة وودائع القطاع العائلى، بل إنه يقول إن «ضرائب إضافية ستكون محبذة على الأنشطة المالية وعلى الأرباح فوق المعتادة بالإضافة إلى الأجور المرتفعة».
أما الغرض من هذه الضرائب، وفقا للصندوق فهو متعدد الجوانب. فستكون هذه الموارد أساسا لصيانة النظام المالى فى المستقبل عن طريق توفير موارد للدول لكى تتدخل مبكرا (الصياغة هنا هى تأسيس صندوق للإنقاذ تضخ فيه جزءا من الحصيلة)، كما أنها وسيلة لترشيد النمو المجنون للنظام المالى العالمى. الأكثر من ذلك، كما تقول المنظمة الدولية، فهى طريقة لحماية الاقتصادات المتقدمة والنامية من عجز الموازنات، عن طريق تحويل هذه الأموال جزئيا أو كليا للموارد العامة للدولة.
ويقترح الصندوق أن تقوم دول مجموعة العشرين بتحصيل ما بين 2 و4% من الناتج المحلى الإجمالى بها على المدى الطويل، لكنه يرى البدء بضريبة تقوم على معدل ثابت Flat Tax على كل المؤسسات المالية.
وتجىء دول الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبى فى مقدمة المتحمسين لإجراءات الصندوق بينما عارضتها كندا بقوة على أساس أن بنوكها بقيت سليمة وبعيدة عن تداعيات أزمة 2008، وبقيت اليابان متشائمة بشأنها. لكن الصندوق حذر من هذا التباين، قائلا إنه يجب أن يكون هناك انسجام عالمى فى هذه الخطوة، وإلا خلق ذلك مجالا لعمليات المراجحة Arbitrage.
وقال دومينيك شتراوس ــ كان مدير الصندوق ردا على انتقادات كندا إنه «غير متأكد مما إذا كان الإجراء، مع التشريعات التنظيمية القوية، لا يجب أن يطبق فى كل مكان». «تجارب الدول فى الأزمة الجديدة تختلف بشكل كبير لكن أيا منها ليس بمأمن من خطر أزمة مالية فى المستقبل، لا يمكن تجنب أن تكون عالمية.
والإجراءات المنفردة من الدول لن تنجح بسبب ما ستولده من فرص للمراجحة الضريبية والتشريعية»، على حد تعبير تقرير الاستقرار المالى العالمى، الذى أصدره الصندوق يوم الخميس الماضى.
ما مكاننا نحن من ذلك؟ حتى كتابة هذه السطور لم نسمع تعليقا واحدا من أى من مسئولينا الاقتصاديين، حتى من يوسف بطرس غالى وزير المالية، الذى حضر هذه الاجتماعات بصفته التنفيذية فى رئاسة إحدى لجان الصندوق. لكن تطبيق مثل هذه الضريبة فى مصر قد يكون حلا ممتازا، لا يدفع ثمنه الفقراء، لأزمة تراجع موارد الدولة.
فبالإضافة إلى أن هذه الضرائب، مثلها مثل الضريبة العقارية، ترشد نشاطا اقتصاديا له عيوبه وآثاره الضارة على التنمية فى المستقبل. فأسواق التمويل فى الاقتصاد الرأسمالى لها دور محورى فى تسريع دورة الإنتاج الحقيقى وفى تمويل المشروعات.. الخ.
لكن الاقتصاد المالى فى مصر كما هو فى العالم أصبح له حياة فى ذاته. ويكفينا أن نلاحظ مدى ضعف الارتباط بين أداء البورصة المصرية وأسهمها والمؤشرات الاقتصادية الكلية كالفائدة وغيرها لنلاحظ أن حركة القطاع المالى لها حياتها الخاصة.
وفى بلد يحتاج لإنفاق هائل على التعليم والصحة ولمحاربة الفقر والبطالة، يصعب أن يقوم به القطاع الخاص، فإن موردا بهذا الحجم للموازنة قد يكون حتميا، بدلا من التوجه الحالى لمواجهة عجز الموازنة المتفاقم عن طريق جيوب الفقراء عبر تقليص الدعم والضرائب غير المباشرة.
وإذا أخذنا ما يدعو إليه الصندوق فى حده الأدنى فإن هذا النوع من الضرائب قد يوفر لمصر 21 مليار جنيه فى المدى الطويل، تمولها أرباح شركات القطاع المالى وأنشطة المضاربة المالية والذين يحصلون على أجور بعشرات ومئات الآلاف من الجنيهات شهريا.
هنا تتدخل السياسة. فى بريطانيا مثلا يدعو حزب المحافظين، الذى يسعى للوصول للسلطة فى انتخابات الشهر المقبل، إلى فرض ضريبة مشابهة، حتى ولو لم تقر عالميا، تتراوح بين مليار و1.3 مليار جنيه استرلينى سنويا، سترتفع إلى 5 مليارات حال إقرار هذه الضريبة من مجموعة العشرين فى سبتمبر المقبل. ويقول حزب مارجريت تاتشر، فى نسخة جيمس كاميرون، أن الجزء الأساسى من هذه الحصيلة سيمول إعفاءات ضريبية للأسر البريطانية (لدافعى الضرائب ممن يحصلون على أقل من 44 ألف إسترلينى سنويا). حزب العمال يتهم المحافظين بأن هذه خطوة انتخابية للحصول على تأييد الشارع فى الانتخابات.
لكن المقارنة هنا واجبة بين مارجريت تاتشر، التى دشنت سياسات اقتصادية، مازالت تطبق فى بلادنا بحذافيرها، وما آل اليه حزبها نفسه واستخلاص الدروس من ذلك.
وفى مصر ليس للناخبين مثل هذا الثقل. وفى مصر أيضا لهؤلاء الذين يديرون وينتفعون من النظام المالى وأرباحه ثقل اجتماعى وسياسى لا يضاهى، ربما يمنع الحكومة، حتى لو استطاعت قياداتها الاقتصادية تغيير وجهة نظرها التى دافعت عنها سنوات طويلة، وقد استبعدت مرارا فكرة فرض ضرائب على الأرباح الرأسمالية فى أسواق المال، من المضى قدما فيما يدعو إليه الصندوق.
وبغياب الثقل الانتخابى الديمقراطى لأغلبية الفقراء.. ستكون الإجابة عن سؤال أوكسفام: لماذا لن تنضم حكومة مصر لصفوف «الملائكة» مع الصندوق وحزب تاتشر؟ واضحة ومفهومة.