مجموعات معتبرة من الطلاب فى الجامعات الأمريكية، وجامعات القمة من بينها بشكل خاص، يحتجون منذ شهور على المذبحة التى تنزلها إسرائيل بالشعب الفلسطينى فى غزة. الاحتجاجات وأصداؤها السياسية فى الولايات المتحدة وخارجها وصلت إلى ذروة غير مسبوقة منذ عقود فى الأسبوع الماضى عندما استدعت لجنة التعليم وقوة العمل فى مجلس النواب الأمريكى رئيسة جامعة كولومبيا، الدكتورة نعمت شفيق، للمثول أمامها فى جلسة استماع كان موضوعها موقفها هى شخصيا وموقف الجامعة من مناهضة السامية، وسياسات الجامعة والإجراءات التى تتخذها لمحاربتها ولحماية الطلاب اليهود الذين يتعرضون لها. الدكتورة نعمت شفيق كانت قد تفادت الاستجابة لاستدعاء اللجنة لها فى شهر ديسمبر الماضى مع زميلاتها رئيسات جامعتى هارفارد وبنسلفانيا ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا.
هذا المقال هو عن التحرك الطلابى الذى شهده عدد غير قليل من أهم الجامعات الأمريكية وعلاقة التحرك والتعامل معه بمحيطه، أى بالنظام السياسى الأمريكى أو بالديمقراطية الأمريكية. التركيز على الاحتجاجات فى جامعة كولومبيا تحديدا فى المقال هو لأنها اتخذت شكل النزاع بين الطلبة المحتجين وإدارة الجامعة، والاحتجاجات فيها مازالت محتدمةً وهى الأكثر بروزا وحدّة، ولأنها صارت مثالاً تحتذيه جماعات الاحتجاج فى جامعات عديدة من شرق الولايات المتحدة إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.
• • •
التحرك الطلابى المذكور انصب على المطالبة بوقف الحرب فى غزة وتوقف الولايات المتحدة عن تصدير السلاح لإسرائيل، وعلى إدخال الأغذية وغيرها من المعونة الإنسانية إلى غزة التى تعانى المجاعة، ثم هو امتدّ إلى المطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية، ثم بأن تقاطع الجامعات إسرائيل وتسحب استثماراتها منها. ولم يتوقف التحرك عند ذلك بل هو صار إلى إدانة الصهيونية واعتبار أن الفكر الصهيونى هو المسئول عن الاحتلال، وعن الاستيطان فى الضفة الغربية، وعن اضطهاد الشعب الفلسطينى. الطلاب المحتجون لجأوا بشكل طبيعى إلى ممارسة حق التنظيم الذى تكفله لهم الديمقراطية، فأنشأوا المجموعات تحت مسميات مختلفة كـ«طلاب من أجل العدالة فى فلسطين» للعمل من أجل تحقيق ما يطالبون به. كثير من الطلاب اليهود انضموا إلى هذه المجموعات، وبعضهم أنشأ مجموعات خاصة بهم مثل «الصوت اليهودى من أجل السلام». التنظيم يزيد من إمكانيات من يشاركون فى السياسة ويعدد أمامهم سبل التحرك.
باختصار، التنظيم يضاعف قوة من ينشطون سياسيا ويعبرون عن مطالبهم ويعملون من أجلها. فى كولومبيا قررت المجموعات المشاركة فى التحرك ونصب الخيام والاعتصام داخل الجامعة لمواصلة التعبير عن مطالبهم. هذا هو الظرف الذى أدلت فيه رئيسة الجامعة بشهادتها أمام مجلس النواب الأمريكى. الاعتصام، ومواقف الطلاب ومطالبهم، اعتبرت مناهضةً للسامية يشعر الطلاب اليهود من جرائها بالخطر على أنفسهم. طلاب يهود قالوا ذلك بالفعل غير أن طلابا يهود آخرين نفوا شعورهم بالخطر بل أشادوا بالتواؤم بينهم وبين زملائهم من المحتجين. مناهضة السامية وما تفعله الجامعة بشأنها أصبحا موضوع النزاع وليس ما ينزل بالشعب الفلسطينى. انقلب الموضوع رأسا على عقب وهو ما يصرف الانتباه عما تفعله إسرائيل بغزة، وفى هذا شبهٌ بحرفها للاهتمام الدولى بقصفها للقنصلية الإيرانية فى دمشق فى وقت سابق من هذا الشهر.
غير أن ما رأت رئيسة الجامعة وفريق المحامين المساندين لها أنه حلّ يكف يد الكونجرس عنها، أى استدعاء شرطة نيويورك لإخلاء الجامعة من المعتصمين والقبض على أكثر من مائة من بينهم، زاد من موضوعات النزاع ومن حدتها ومن الأطراف المتنازعة بشأنها. حقوق الطلاب والحريات الأكاديمية، فى نظام تعليمى يفتخر بليبراليته وبتشجيع الفكر النقدى، أصبحت فى قلب موضوعات النزاع. أساتذة الجامعة من جانب، ومجلس الشيوخ فيها، الذى يضم ممثلين عن الأساتذة والطلاب والإداريين، من جانب آخر، أدانوا التعدى على الحريات الأكاديمية وتدخل الشرطة والقبض على الطلبة، منددين بإسرائيل من خارج الجامعة وأصبحوا طرفا إضافيا فى النزاع المتسع، تظاهروا أمام الجامعة متضامنين مع الطلبة المحتجين فيها الذين نصبوا خيما جديدة فى اعتصام أوسع من ذلك الذى فضته الشرطة. يذكر أن 45% من الشباب الأمريكى تحت سن الثلاثين كان يعارض مواصلة الدعم العسكرى لإسرائيل فى مقابل 31% يؤيدها فى شهر فبراير الماضى حسب بيانات مركز بيو.
• • •
آلاف من اليهود تشكلوا كطرف آخر فى النزاع، تظاهروا فى نيويورك بمناسبة عيد الفصح اليهودى، وهو مناسبة الاحتفال بذكرى «خروج اليهود من مصر» على عهد موسى، مطالبين بوقف حرب الإبادة فى غزة، فاعتقلت الشرطة المئات منهم. بنفس المناسبة، كاتبة كندية يهودية لامعة ذات شعبية تتعدى الحدود والقارات هى نويمى كلاين نشرت مقالا فى صحيفة «الجارديان» البريطانية دعت فيه إلى «الخروج من الصهيونية»، أى التحرر منها، مشبهةً الصهيونية بالعجل الذهبى، الإله الكاذب. على الطرف الآخر من النزاع، توجد مجموعات الطلبة اليهود الصهاينة، وهى مجموعات يعتد بها وبتأثيرها لارتباطاتها فى البيئة السياسية والاقتصادية والاتصالية المحيطة، والكونجرس الأمريكى ممثلا حتى الآن فى مجلس النواب الأمريكى. الروابط بين المجموعات الصهيونية المذكورة والكونجرس لا يستهان بها، وبينةٌ عليها زيارة رئيس مجلس النواب لجامعة كولومبيا، وهى زيارة أعلن هو أنها للتضامن مع مجموعات الطلبة اليهود الذين يشعرون بالتهديد وبالخطر من جرّاء الاعتصام المناصر لفلسطين. رئيس مجلس النواب الأمريكى نوّه أثناء زيارته بأنه قد تحين لحظة يجب عندها استدعاء الحرس الوطنى لفض الاعتصام الجديد فى الجامعة.
• • •
فيما بين مجموعات الطلبة المدافعة عن فلسطين، من غير اليهود ومن اليهود، والأساتذة ومجالس شيوخ الجامعات المتضامنة مع حقهم فى حرية التعبير والداعية إلى احترام الحريات الأكاديمية، من جانب، والمجموعات الصهيونية والكونجرس وعدد من المتبرعين للجامعات، من جانب آخر، توجد إدارات الجامعات، وعلى رأسها رئيساتها أو رؤساؤها، ومجالس أمنائها. فى بيئة النزاع، موقف السلطة التنفيذية الأمريكية ليس واضحا. يلاحظ أن رأس السلطة التنفيذية هو فى نفس الوقت مرشح للانتخابات قبل نهاية هذا العام. غير أن السلطة التنفيذية هى أيضا سلطات الولايات والشرطة والحرس الوطنى فيها وعلى المستوى الاتحادى المباحث الفيدرالية. جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل مثل إيباك تقع فى بيئة النزاع أيضا. توزيع الأطراف المنخرطة فى النزاع هو نفسه فى كل الجامعات وموضوعات النزاع هى أيضا ذاتها. شهادات شهر ديسمبر كانت قد انتهت باستقالة رئيستى جامعتى هارفارد وبنسلفانيا. فى كولومبيا، كما سبق ذكره، اختارت رئيسة الجامعة استدعاء الشرطة مرة أولى لفض اعتصام الطلبة فى الأسبوع الماضى، ودارت أنباءٌ عن تفكيرها فى استدعاء الشرطة مرةً أخرى لفض الاعتصام الجديد. هى أيضا أغلقت الحرم الجامعى فى وجه كل من لا ينتمى إلى الجامعة، ثم أغلقته أمام الطلبة والأساتذة أنفسهم بتحويل المحاضرات إلى الشكل الافتراضى عبر الإنترنت. وهى ثالثا حلت مجموعات طلابية وأوقفت عمل أكثر من أستاذ واحد على سبيل محاربة مناهضة السامية.
فى نفس مدينة نيويورك، فى محيط الجامعة التى تحمل اسمها، فضت الشرطة تجمعا للطلبة والأساتذة واعتقلت عشرات منهم، بينهم الأديب العراقى المعروف والأستاذ فيها، سنان أنطون. فى جامعة ييل دخلت الشرطة إلى الحرم الجامعى فما كان من الطلبة إلا أن خرجوا إلى المدينة واحتلوا تقاطعا رئيسيا فيها. ليس معروفا إن كان تدخل الشرطة فى حالة جامعة نيويورك بمبادرة منها أو بطلب من إدارة الجامعة. أما فى ييل فهو لا يمكن أن يكون إلا بطلب من إدارة الجامعة. إدارات جامعات أخرى مثل هارفارد حذرت الطلبة من الاعتصام وأغلقت الحرم الجامعى فى وجه غير الطلاب والأساتذة والإداريين.
• • •
الاستعراض أعلاه لتطور التحرك الطلابى ورد الفعل عليه يستدعى عددا من التعليقات. التعليق الأول عن التناقض المطلق بين حرية كل من التعبير والتنظيم والتجمع والحريات الأكاديمية، وهى فى جوهر النظام الديمقراطى الليبرالى، وبين تقييد هذه الحريات الذى دعا إليه ضمنيا ممثلون للسلطة التشريعية، وطبقته بدرجات متفاوتة جامعات مختلفة، وتمادت فيه كولومبيا بالذات. التعليق الثانى هو تساؤل عن مصدر السلطة التى يمارسها الكونجرس على الجامعات. من أين للكونجرس أن يساءل الجامعات؟ هو يمكن أن يستمع إلى المسئولين عن الجامعات ليس إلا، ومع ذلك قدّرت رئيسة جامعة كولومبيا أن الأهم هو إرضاء الكونجرس وكف يده عن جامعتها، وتفادى مصير زميلتيها من هارفارد وبنسلفانيا. غير أن الكونجرس ليس كل أطراف النزاع، وهو إن رضى، وهو لم يرض، فإن الأطراف الأخرى على الجانب الآخر من النزاع لن تقبل بإرضاء الكونجرس على حسابها، وهو ما حدث فعلاً. نتيجتان ترتبتا على ذلك، الأولى هى أن النزاع فى كولومبيا لم تجر تسويته، وهو نزاع يمكن أن يتفاقم، ولقد انتقلت عدواه إلى جامعات أخرى تضامن الطلاب فيها مع طلابها. النتيجة الثانية هى أن الكونجرس، بفعل لجنته المختصة وموقف رئيسه، قد قوض أسسا رئيسية فى النظام التعليمى الأمريكى المتميز، وفى الديمقراطية الأمريكية. النتيجة الأولى هى أنه استدعيت إلى الذاكرة الحركة الطلابية الأمريكية فى الستينيات من القرن الماضى التى اندلعت احتجاجا على التفاوتات الاجتماعية والتمييز العنصرى ضد الأمريكيين السود، ثم توسعت وتضخمت اعتراضا على الحرب فى فيتنام. يلاحظ أن طلاب جامعة كولومبيا الحاليين ساروا على نهج أسلافهم الذين كانوا فى طليعة هذه الحركة منذ ستين عاما، ويلاحظ أيضا أن طلاب جامعة كاليفورنيا فى بيركلى الذين تضامنوا معهم فى الأيام الأخيرة هم بدورهم ورثة أولئك الطلاب الذين كانوا رأس حربة فى الحركة الطلابية على الساحل الغربى للولايات المتحدة فى الستينيات من القرن العشرين. أنت تجد عند استدعاء ذاكرة الماضى إحساسا بأن القضايا المثارة آنذاك لم تحسم وبقيت معلقة. هكذا فإن الاحتجاج على إسرائيل وعلى سكوت الولايات المتحدة على مذابحها فى غزة بل ومساعدتها على ارتكابها قد أدى ليس فقط إلى مهاجمة الصهيونية ذاتها، دون التفات إلى الاتهامات الفارغة بمعاداة السامية، بل هو يمكن أن يؤدى إلى المساءلة فى أساسيات النظام الاقتصادى الاجتماعى الأمريكى، وفى عمل النظام السياسى الذى يحفظها. حكمة رئيس مجلس النواب الأمريكى، الشخصية الثالثة فى ترتيب أصحاب السلطة بعد الرئيس ونائبه، الذى نوه باستدعاء الحرس الوطنى إلى حرم جامعة كولومبيا تدعو للتعجب! فى آخر مرة دخل الحرس الوطنى إلى حرم جامعة، هى جامعة ولاية كنت فى سنة 1970، على عهد الرئيس نيكسون كانت المحصلة مقتل طالبتين وطالبين بين التاسعة عشرة والعشرين من العمر وجرح تسعة آخرين. النتيجة الثانية هى أنه بتقييد حرية الطلاب فى التعبير وفى الاجتماع ومحاصرة الحريات الأكاديمية، وبإغلاق حرم الجامعات أمام غير طلابها وأساتذتها وإدارييها، تصبح الولايات المتحدة مثلها مثل الدول السلطوية فتفقد بذلك أهم أدوات النموذج السياسى الذى تدعو إليه، وليتساءل المراقب ما الذى يبقى لها لتعاير به الصين وروسيا وكافة الأنظمة السلطوية!
• • •
هل تؤدى حماية إسرائيل «الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط»، وتقييد أى نقد لها، ومساندة المذابح التى ترتكبها، إلى تقويض الديمقراطية فى نفس معقلها الأمريكى؟ أم هل سيسود ممارسو الديمقراطية الحقيقيون ليتمتع بالحماية من يحتاج إليها فعلاً، الشعب الفلسطينى فى غزة وفى الضفة الغربية الموحدتين؟
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة