استنكار السياسة وتقديسها أسطورتان متناقضتان حول علاقة الدولة والأحزاب والانتخابات بالحركة الجماهيرية تقدمان إجابتين على أقصى طرفى النقيض لهذا السؤال: هل هزمت نتائج الانتخابات الرئاسية فى مصر ثورة يناير؟
الإجابة الأولى هى أن الانتخابات لا علاقة لها من قريب ولا بعيد بالثورة ولا ناقة ولا جمل للثوار فيها. فهل تُصنع الثورات أو تُختبر فى صناديق الاقتراع؟ أليس هذا النوع من الفعل الديمقراطى قاصرا ومأزوما من الأصل وفى بلاد عمره فيها سنين وسنين؟ الثورة مستمرة لأن الانتخابات والسياسة التى تنطوى عليها لا أهمية لها على الإطلاق فهى «مسرحية هزلية»، لا تعبر عن، ولا تؤثر فى، الفعل الجماهيرى.
أما المنطق الثانى فيذهب إلى أن الثورة انتهت «وحان وقت البناء»، كما صرح المتحدث باسم حملة أحمد شفيق لجريدة نيويورك تايمز الأمريكية، أو حتى فيما قال إنه تصحيح لما نشر على لسانه فى الجريدة الأمريكية: الثورة أنهت النظام القديم وحان وقت البناء، وخلاصة الصيغتين واحدة فى الحقيقة: أن الثورة انتهت وحان وقت المؤسسات.
لا للسياسة والسياسيين
عكس احتقار السياسة والسياسيين نفسه بصور مختلفة منذ 25 من يناير 2011. سمعنا فى الميدان كثيرا هذه الفكرة: لا أحزاب بيننا. ووصل الأمر بهذه الفكرة فيما بعد الـ18 يوما الذهبية لاعتصام التحرير إلى حد قيام مجموعات من الشباب باقتحام المنصات الحزبية وإجبار أصحابها على تنكيس اللافتات، أو دفع المتحدثين عليها باسم الأحزاب والقوى السياسية إلى التوقف عن مخاطبة الناس.
ولهذا المنطق أصل موروث فيما روجه نظام مبارك على مدى سنوات (ومن بعده المجلس العسكرى وإعلامه، اللهم إلا بشأن أنفسهم ومن حافظوا على جلسات الشاى بالياسمين) من أن أصحاب الانتماء السياسى مدفوعون دائما بمصالح خفية غالبا مرتبطة بمال خارجى أو داخلى وأن الناس هدف لخديعة تستغلهم لأغراض لا شأن لهم بها. لكن له أصلا آخر نجده عند المقاطعين للانتخابات البرلمانية والرئاسية.
ويختلط لدى هؤلاء تبريران غير متسقين بطريقة يصعب الفصل والتمييز بينهما: الأول يشير لمشاكل الانتخابات القانونية من منطقة ترتيب العملية (الدستور أولا لتحديد الصلاحيات وترتيب الملعب)، والثانى نقد لفكرة الانتخابات ذاتها كمسرح لتنافس المال السياسى يعيد إنتاج النظام القديم، خاصة وأنها تتم بشروط «حكم عسكرى».
ويتداخل التبريران معا ليتفقا فى الاستنتاج النهائى: السياسة عموما مفسدة ولعبة الانتخابات «لعبة سياسيين قذرة» لا مكان للثوريين فيها، ولا أثر لها على المواجهة الكبرى بين الثورة وأعدائها فى الشارع.
وتمثل حقيقة أن هناك أكثر من 20 مليون مصرى (شارك أكثر من نصفهم فى الثورة) شاركوا فى هذه الانتخابات تحديا حقيقيا للاستنتاجات العملية لأصحاب هذه الفكرة.
هؤلاء قرروا أن يدخلوا ساحة السياسة (بكل مشاكلها وقصورها وربما قذارتها) لأن البوصلة السياسية الثورية غائبة، أو لأن الخيارات السياسية العملية البديلة غير مطروحة عليهم أوغير متبلورة بما يكفى لكى يقتنعوا بجدواها، وربما لأنها غير مقبولة بعد.
حقا الانتخابات مجرد انعكاس مشوه لعلاقات القوى الأساسية فى المجتمع، يعطى الأسبقية للمهيمنين بالفعل بما تتطلبه من تنظيم ومال ونشاط يتحول فيه المواطنون لفاعلين سلبيين مقارنة بالخلق السياسى الذى كانوا يقومون به (ومازالوا) فى الميادين وفى المصانع بتنظيم أنفسهم للتظاهر والاعتصام والإضراب. لكن
المعركة أصلها فى السياسة ولا تخاض إلا عبر السياسة التى تقدم موقفا مبدئيا فاضحا لترتيبات هذه العملية..نعم..لكنه لا يعزل نفسه أبدا عن هؤلاء الذين فرضوا بدمائهم أن يكون لهم صوت فى هذا العالم الذى احتكره الحكام على مدى عقود، واختار أكثر من 65% منهم مرشحين يرون فيهم تجسيدا لما قاتلوا من اجله خلال الثورة.
بهذا المنطق حيا القائد الثورى الروسى ليون تروتسكى فى كتابه الملحمى «تاريخ الثورة الروسية» الأغلبية التى صوتت للتيارات المحافظة فى انتخابات برلمان موسكو فى يونيو 1917 (بين ثورتى فبراير وأكتوبر) معتبرا ذلك عملا بطوليا. فقط لأنهم تركوا عالم العدم السياسى وأصبح لهم وجود فيه وإن خالف الموقع الذى يقف هو فيه.
سياستنا كل شىء
لا يقف فى هذا المعسكر فقط الذين يعادون الثورة فى كل مراحلها من أنصار النظام القديم الباحثين عن «استقرار» يحمى هيمنتهم، وإنما معارضون محافظون مغرمون بالمؤسسات وبشكلانية النظام السياسى.
الثورة بالنسبة للأخيرين وكأنها مجرد دفعة لتغيير شكل مؤسسات السياسة. يغرقنا هؤلاء فى بحر بنود الدستور وشكل النظام الجمهورى وترتيبات الجمعية التأسيسية ومبادرات التوافق الحزبى وتحالفات الإنتخابات بأنواعها، وصلاحيات الرئيس المنتظر، مختصرين السياسة فى مؤسسات الدولة، ومستأصلين من السياسة القوة الجبارة التى اقتحمتها فى الثورة، إذ أن الاستنتاج اللاحق لأى ترتيبات مرضية لهؤلاء مشابهة لحملة شفيق: فليتوقف الفعل الجماهيرى فى الشارع وليبدأ البناء المؤسسى.
هذا المنطق الذى يختصر كل شىء فى السياسة، بمعناها القاصر الضيق كما يظهر فى الانتخابات (متجاهلا أن نصف الناخبين عزفوا عن المشاركة فيها)، هو نفسه الذى رفض (وإن من موقع المعارضة لنظام مبارك) أن يرى إمكانية أن يتكرر ما حدث فى تونس فى مصر فى الأيام القليلة بين سقوط بن على واندلاع
الانتفاضة المصرية لأنه لا ينظر للمكان الذى تصنع فيه السياسة حقا وتصاغ فيه علاقات المجتمع: القوى الاجتماعية وصراع المصالح بينها. يفشل هؤلاء بضيق رؤيتهم فى استيعاب إمكانات الحركة الجماهيرية، قبل الثورة والآن. يرى هذا المنطق المغرم بالمؤسسية فى الانتخابات ونتائجها كل شىء فيضيق عن استيعاب أنها إحدى ساحات المواجهة وليست الأخيرة ولا الحاسمة.
المواطن المحتار بين خالد على وشفيق
على موقع التواصل الاجتماعى تويتر تكررت تغريدات تتحدث عن معارف مترددين بين انتخاب خالد على وأحمد شفيق، بكل ما يحمله ذلك من تناقض سافر فى الرؤية الاجتماعية وفى الموقف من الثورة ومن النظام القديم. والحقيقة أن ذلك ليس مستغربا على الإطلاق.
فوعى الناس لا يتغير بطريقة خطية ولا منسجمة، ولا حتى فى الثورة. يغير الاشتباك المباشر للناس فى النضال الاجتماعى والسياسى جزءا من أفكارهم التى يهيمن بها نظام المصالح المعادى لهم ويبقى الجزء الآخر المتناقض معه موجودا. وهكذا ترى عاملا مارس الإضراب وايقاف الطرق من أجل زيادة أجره (وهو عمل مجرَّم قانونا بالزور والعدوان بحكم مراسيم حكومة شرف والعسكري)، وفى الوقت نفسه يتحدث عن إقرار النظام «بيد حديدية».
يقول كتاب تاريخ الثورة الروسية تعليقا على انتخابات منتصف 1917 التى حصل فيها الثوريون على أقلية إن «الجماهير ليست متسقة والأكثر من ذلك فإنها تتعلم أن تتعامل مع النار فقط بأن تحرق أيديها بها فتقفز مبتعدة». هكذا يخطو الناس خطوتهم فى الانتخابات، فيدخل ممثل النظام القديم الإعادة دون أن تختاره أغلبيتهم، فيعدلون مسارهم لكن الأهم هو أنهم يتعلمون أنهم يستطيعون ويحتاجون عالما سياسيا أرحب هم فيه ملاك مصيرهم فيسعون إليه ويختارون من عالم السياسة المفروض عليهم مالا يصعب عليهم نضالهم فيه. وهو سعى لا ينبغى أن يتركهم الثوار فيه عند أى نقطة.
الثورة لا يمكن أن تنهزم بالانتخابات. فحتى إذا جاءت بممثل للنظام القديم فإنها ستصَعِّب شروط النضال السياسى والاجتماعى الجماهيرى لكنها لن تنهيه. لأن منبعه حى فى قوى اجتماعية مازالت تترقب معانيها بالنسبة لمطالبها.
●●●
ينقل الصحفى الأمريكى جون ريد فى كتابه عن الثورة الروسية «عشرة أيام هزت العالم»، الذى أعيد طبعه باللغة العربية قبل أسابيع، عن جريدة محافظة فى أكتوبر 1917 ما يلي: «إن الثورة تتألف من فصلين: هدم النظام القديم وإقامة نظام جديد.
وقد طال الفصل الأول كثيرا إلى ما فيه الكفاية، وحان وقت الشروع فى الثانى. وينبغى القيام به بأسرع ما يمكن، فإن ثوريا عظيما كان يقول: لنعجل أيها الأصدقاء فى انهاء الثورة فمن يفرط بإطالة الثورة لا يقطف ثمارها» وتزامنت هذه الدعوة مع اعتقاد راسخ لدى رجال الأعمال والمثقفين أن الثورة فى انحسار.
وبعد أسبوعين قامت ثورة أخرى.