فى العاشرة والنصف من صباح الخميس 25 يوليو أعلنت الرئاسة التونسية وفاة الرئيس باجى قايد السبسى. بعدها بثلاث ساعات، فى نحو الواحدة والنصف بعد الظهر، أدى رئيس مجلس النواب، محمد الناصر، اليمين كرئيس مؤقت للبلاد. لم تؤد وفاة رئيس الجمهورية إلى أى اضطراب أو شعور بالفزع والخوف من المجهول. ساد الوفاق والتفاهم على الرغم من أن إعلان محمد الناصر رئيسا مؤقتا، وإن كان ينص عليه الدستور، فإن ثمة فراغا مؤسسيا كان يمكن أن يشكل عقبة فى سبيله. دستور سنة 2014 التونسى ينص على أن تعلن المحكمة الدستورية شغور منصب الرئيس قبل أن يشرع رئيس مجلس النواب فى أداء اليمين كرئيس مؤقت. غير أنه وبعد خمس سنوات من اعتماد الدستور لم تتشكل المحكمة الدستورية بعد. لم يختلف أطراف المجتمع السياسى التونسى بشأن ما يفعلونه إزاء عدم وجود محكمة دستورية بل إن الموضوع لم يثر أصلا. هم أخذوا فورا وبلا نقاش بحل براجماتى وهو أن يعلن مجلس النواب نفسه شغور منصب الرئاسة.
هذا الحل البراجماتى هو من نفس نوع الحلول الوسط التى أخذ بها أطراف المجتمع السياسى التونسى منذ النصف الثانى من العام 2013، أى بعد سنتين ونصف من نجاح الثورة التونسية فى الإطاحة بالرئيس الأسبق زين العابدين بن على. زائر تونس أو الحريص على الاطلاع على أوضاعها يلحظ أن فيها شعورا منتشرا بوجود أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، وهى حقيقة لا مراء فيها سنعود إليها لاحقا، ومع ذلك فلا بد من تسجيل النجاح الذى تحقق فى أولى مراحل التحول السياسى فى تونس، وهو نجاح يرجع إلى منهج الحلول الوسط البراجماتية التى أخذ بها أطراف هذا التحول، كما أنه يفسر إلى حد بعيد الهدوء الذى طبع يوم وفاة الرئيس السبسى.
الأساس فى النجاح الذى تحقق كان فى إدراك أطراف المعادلة السياسية واعترافهم بأن أحدا منهم لا يستطيع القضاء على الآخر أو تجاهله. هنا يظهر الدور الذى لعبه الرئيس السبسى. حتى النصف الأول من العام 2013، لم يكن ثمة حديث بينه وبين راشد الغنوشى زعيم حزب حركة النهضة بل إنهما كانا يتفاديان أن يوجدا فى مكان واحد.
القايد السبسى الآتى من نظام الرئيس بورقيبة والذى خدم أيضا فى بدايات نظام بن على كان قد شكل حزب «نداء تونس» العلمانى من قدماء البورقيبيين ومن الديمقراطيين من الليبراليين السياسيين وبعض اليسار ليقف فى مواجهة حزب حركة النهضة، المعبر عن الإسلام السياسى. ومع ذلك، فعندما شبه انسدت الآفاق أمام الجمعية التأسيسية للخروج بدستور توافقى تتعايش فى ظله جميع القوى السياسية، سافر السبسى والغنوشى إلى باريس واجتمعا هناك فى أغسطس 2013 وتوصلا إلى توافقات مكنت مؤسسات المجتمع المدنى من أن تلعب دورا توفيقيا وأن تتقدم بحلول وسط سمحت باعتماد الدستور فى فبراير سنة 2014، ثم بانتخاب القايد السبسى رئيسا للجمهورية، وبإجراء الانتخابات التشريعية التى خرج حزب النهضة منها بأغلبية نسبية فى مجلس النواب ومع ذلك قبل لعب الدور الشريك الأصغر فى الحكومة. الحلول الوسط هى صلب سياسة المجتمعات والدول. والحلول الوسط لها أثمان. بالنسبة لحزب حركة النهضة كان الثمن التخلى عن الأغلبية الوزارية ورئاسة مجلس الوزراء وهو مارسهما فى 2012 ــ 2013، أما الرئيس السبسى شخصيا فكان الثمن بالنسبة إليه هو تصدع حزب نداء تونس وخروج الكثيرين منه، وكيف لا، فسبب وجود الحزب هو مواجهة الإسلاميين السياسيين، وأولهم حزب حركة النهضة، فكيف يمكن قبول التفاهم معهم؟ المقابل لكل من الثمنين كان بالنسبة لحزب حركة النهضة الحفاظ عليه وعلى نشاطه السياسى والاجتماعى، وبالنسبة للرئيس السبسى الإبقاء على التوجه العلمانى التونسى وترسيخ أن العلمانية تحفظ للدين مكانته وتحافظ عليها. البراجماتية إذن كانت منهج كل من السبسى والغنوشى. البراجماتية والحلول الوسط يجدان تعبيرا آخر عن نفسيهما يجدر التوقف عنده. السبسى ابتعد حينا عن السياسية أيام بورقيبة لدعوته إلى دمقرطة النظام ثم هو ابتعد لمدة عشرين عاما عن نظام بن على ولكنه مع ذلك انتمى إلى النظام السلطوى الأول على الأقل بكل تأكيد حتى أن اتهامات طالته بأن معارضين للنظام تعرضوا للتعذيب أثناء توليه وزارة الداخلية فى الستينيات من القرن الماضى. هذا لم يمنع الديمقراطيين العلمانيين من أن ينضووا معه فى «نداء تونس» ولا هو أنهى الغنوشى عن أن يتفاهم معه على دفع النظام السياسى إلى الأمام. فى السياسة أنت لا تتعامل مع قديسين أثوابهم ناصعة البياض وإنما مع بشر يتحركون فى مساحات تحدها قوتهم وقوة الآخرين. بالمناسبة، هذه الممارسة تتفق مع ما يجىء فى نظرية التحول السياسى عن تأسيس التحول على تفاهم أجنحة الديمقراطيين الداعين إلى التغيير الأقل تطرفا مع تلك الأجنحة فى الأنظمة الحاكمة النصيرة للدمقرطة والداعية إليها. فى التطبيق، هذا ما حدث فى بلدان وسط أوروبا، مثل بولندا، بعد سقوط الشيوعية فيها فى التسعينيات من القرن الماضى، وفى البرازيل فى الثمانينيات منه، ومن قبلهما فى إسبانيا فى نهاية السبعينيات. الخاصية التونسية، والتى ربما انطبقت على غيرها من الدول العربية والدول ذات الأغلبية المسلمة من السكان، هى أن أطراف الحلول الوسط ليست الفاعلين السياسيين القدماء والجدد فقط، وإنما أطراف الحلول الوسط الضرورية هم كذلك العلمانيون والإسلاميون.
***
الهدوء الذى اتسم به انتقال سلطة الرئاسة مؤقتا إلى رئيس مجلس النواب مؤشر على أن المرحلة المسماة بمرحلة تكريس الديمقراطية قد بدأت بشكل طيب. كان المفترض أن تجرى الانتخابات التشريعية فى شهر أكتوبر المقبل والانتخابات الرئاسية لخلافة الرئيس قايد السبسى فى نوفمبر. الآن انعكس ترتيب الانتخابات حيث أعلن عن إجراء الانتخابات الرئاسية فى يوم 15 سبتمبر القادم. مرحلة تكريس الديمقراطية عظيمة الأهمية فى عملية التحول السياسى. الانتخابات التشريعية القادمة ستكون الانتخابات العامة الثالثة التى تجرى فى تونس منذ سنة 2011، الأولى كانت لتشكيل الجمعية التأسيسية والثانية كانت الانتخابات التشريعية لسنة 2014. أما الانتخابات الرئاسية فستكون الثانية. بعدها سيكون شديد الصعوبة النكوص عن الانتخابات التنافسية غير المعروفة نتائجها سلفا، وهى الأساس الذى تنتفى الديمقراطية بدونه.
غير أن تكريس الديمقراطية يحتاج إلى الاهتمام بلا تأخير بالمطالب الاقتصادية والاجتماعية للثورة بعد أن قطعت الأشكال الديمقراطية، أو بعبارة أخرى الديمقراطية الإجرائية، أشواطا لا شك فيها يرجى تكريسها فى الأشهر القادمة. هذه المطالب هى ما كان يتطلع إليه علمانيو نداء تونس من غير المنتمين إلى نظامى بورقيبة وبن على وأولئك الثوريين المنتمين إلى اليسار، ناهيك عن جانب كبير من جماهير حزب حركة النهضة نفسه. لأن المطالب الاقتصادية والاجتماعية تخلط الأوراق وتعيد ترتيب أطراف المواجهة، فهم لا يصبحون علمانيين فى مواجهة إسلاميين وإنما مستفيدين من النظام الاقتصادى والاجتماعى القديم، والذى لم يتغير، فى مقابل المتضررين منه. الفقر كان موجودا فارتفع معدله، وتراجعت مستويات خدمات التعليم والصحة العامة، التى كانت مفخرة لتونس فعانت الطبقة المتوسطة، وارتفع معدل البطالة، خاصة بين الشباب وهو ما ترتب عليه نزيف للأدمغة، وتعمق الانقسام، وتوسعت الفجوة، بين تونس الساحلية ذات مستوى المعيشة المرتفع نسبيا، أو المقبول على أقل تقدير، والغرب المتخلف على صعيد كل مؤشرات التنمية. النظام الاجتماعى مرتبط بأداء النظام الاقتصادى، ومن آيات تدهور هذا النظام ارتفاع مستوى الدين العام ومستوى خدمته إلى الناتج المحلى الإجمالى، وازدياد حجم المديونية الخارجية، وانخفاض معدل النمو الاقتصادى، وتراجع الدخل الفردى، وارتفاع أسعار الوقود والسلع الغذائية. ومع ذلك، فإن ثمة مؤشرات مبشرة مثل انتاج كل من الحبوب والزيوت الممتازة لهذا العام وعودة النشاط السياحى.
***
لعل التجربة التونسية تكشف عن التحديات الخاصة التى تواجه عمليات التحول السياسى فى البلدان النامية، وهى أن عليها أن تقرن التحول إلى الديمقراطية الإجرائية بتغييرات جوهرية اقتصادية واجتماعية. هذه عملية ليست سهلة فهى تقابل بالمقاومة من داخل نفس الأنظمة المتحولة سياسيا، ولنا مثال على ذلك من البرازيل. وهى عملية تجرى فى البلدان النامية بدون دعم خارجى واسع النطاق كذلك الذى استفادت منه إسبانيا والبرتغال مثلا فى الثمانينيات من القرن العشرين أو بلدان وسط أوروبا فى العقد التالى عليها.
غير أن التجربة التونسية تكشف كذلك عن أن مواجهة هذه التحديات، وبرغم صعوبتها ممكنة.
أن تتمكن التجربة التونسية من تكريس نجاحها فى هذه المواجهة أمل لكل من يتطلعون إلى الديمقراطية سبيلا لتحقيق التنمية والتقدم والعدالة لكل البلدان والشعوب العربية.
ولعل رياح الجزائر والسودان تنفخ أيضا فى شراع هذا الأمل.