رجال مجهدون ومُصرّون ويعرفون قضيتهم جيدا. عشرات من عمال مصنع قوطة للصلب بالعاشر من رمضان تجمعوا ظهر الأربعاء الماضى أمام مجلس الوزراء للاحتجاج على وقف صرف رجل الأعمال عبدالوهاب قوطة لمرتباتهم منذ شهرين. يحكى العمال أن صاحب المصنع طلب منهم وقف الإنتاج قبل عام كامل. وعندما احتجوا كان رده أن مالهم هو أجورهم. والآن توقفت الأجور. يطالب العمال بتدخل الدولة لتمكينهم من تشغيل المصنع وإدارته لضمان أجورهم بينما يرغب مالكه فى تصفيته وفاء لديون عليه.
عندما تم إعلان د. محمد مرسى رئيسا منتخبا لمصر، كان التصور السائد هو أنه إن حكم فلن يحكم البلاد وحيدا، بل سينازعه فيه المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ألقت شهور من حكم المجلس للبلاد بعد تنحى مبارك بظلالها على الصورة: تغلغل العسكريين فى أجهزة الدولة والمحليات، مصالح اقتصادية مستقلة عن الدولة، علاقات خارجية وطيدة بالولايات المتحدة وغيرها. وكلاء اعلاميون وقوة مسلحة وسعى لتوطيد السيطرة توج نفسه بحل مجلس الشعب والاعلان الدستورى المكمل. وبضربة واحدة فى ١٢ أغسطس اختفى العسكرى وتراجع العسكريون على الأقل من مقدمة الصورة. غير أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة ليس الطرف الوحيد الذى ينازع الرئيس المنتخب على سلطة الحكم. هناك مجلس أعلى آخر لا نعرف تشكيلته القيادية وإن كان دوره واضحا فى الـ١٨ شهرا الماضية نازع فيها العسكرى أو اقتسم معه السلطة، ومازال يضغط ويناور: المجلس الأعلى لحكام القوت.
من هؤلاء؟
يضم هذا المجلس نخبة مصالح تشكلت على مدى عقود من النمو الاقتصادى المصمم على مصالح محاسيب الأعمال. توجت هذه النخبة سيطرتها المتزايدة بمشروع التوريث، الذى كان جمال مبارك فيه هو التجسيد السياسى لمشروعها الاجتماعى الاقتصادى وذروة انفرادها بالسلطة حتى فى مواجهة نخبة العسكر. جاء هؤلاء من الاقتصاد، بلعوا ملايين الأمتار المربعة من أراضى الدولة، وحصلوا على كل التسهيلات. توجهت لهم ميزانية الدولة الفقيرة بالدعم السخى والمساندة، حولت لهم الخصخصة أصولا رابحة بأسعار بخسة. فرضوا سيطرتهم فى كل مجالات العيش تقريبا.
جاءت الثورة ضربة قاصمة لمشروع التوريث. أسقطت القيادة الظاهرة للمجلس وأدخلت بعضهم إلى السجون. لكن المجلس أفلح فى إيقاف الطوفان. فتوقفت قضايا الفساد (تم الترويج أنها تهدد النشاط الاقتصادي) بل وصدر قانون يسمح للفاسدين بالتصالح إذا سددوا ماكان ينبغى أن يسددوه بأسعار سنوات مضت. استمر هؤلاء يمسكون بشرايين الاقتصاد ويتحكمون فى مساره.
الأمثلة كثيرة على المواقع التى احتفظوا بها. هاهو أحدهم، وهو من مهندسى الكويز مع إسرائيل ومن صناع التوريث، يحتفظ بوضعية قيادية فى اتحاد الصناعات. فيتصدر بموقعه هذا قائمة المدعوين لصياغة مستقبل مصر الاقتصادى بعد الثورة. بل ويؤخذ بكلمته كممثل للاستثمار «الوطني». وهاهم رجال جمال مبارك يحتفظون بوضعياتهم المخططة جيدا فى الجهاز المصرفى. بل ويحتل أحدهم موقعا قياديا فى بنك به حصة سيطرة للبنك المركزى المصرى. ولا يفوتك وجود هذا الرجل، غير المعروف اعلاميا رغم أنه كان واحدا من الدائرة الضيقة لصنع السياسات فى الحزب المحلول بسلطة الشعب، فى مكان حساس كهذا مع كل احتمالات تهريب الأموال، بل وحتى هذه اللحظة. هل يفسر لنا ذلك ماسمى بسياسات الأيدى المرتعشة حتى فى البنوك الخاصة، وهى أن البنوك توقفت عن إقراض المشروعات والشركات، فكادت توقف النشاط الاقتصادى لمن أراد من رجال الأعمال بما لذلك من آثار ضاغطة على الثورة ومن يمكن أن يحكم باسمها؟
ويمكن ضرب مثل آخر من قطاع استيراد السلع الغذائية. ومن المعلوم هنا أن مصر تستورد نسبا جبارة من السلع الغذائية من الخارج على رأسها القمح والزيوت والأرز وحتى الفول. ومن المؤكد أيضا أن أشخاصا وعائلات حصلوا بالاتفاق والترتيب خلال حكم نظام مبارك على أوضاع احتكارية مستقرة فى استيراد هذه السلع الحساسة من الخارج. ولقد علا حس وزير التضامن السابق د.جودة عبدالخالق عدة مرات بالإشارة إلى محتكرين فى عدد من هذه السلع قال إنه يعرفهم بالاسم (أحد هؤلاء، وتاريخه وتاريخ عائلته مؤصل فى الحزب المحلول وبرلماناته، هناك تقارير أنه يحتكر مليون طن قمح مستورد سنويا ويشتغل أيضا فى مجال استيراد الذرة، ومنه إلى التخزين والصوامع، ويحسب البعض صافى أرباحه السنوية من نشاطه هذا وحده بنصف المليار جنيه). لكن خطوة واحدة لم تتخذ. فيظل هؤلاء قادرين على خنق الأسواق فى لحظة. ويمتلكون التلاعب فى الأسعار بكافة الطرق التى يسمح بها الاحتكار. فيتلاعبون عبر الأسعار بالسياسة، ويهزون شعبية أيٍ كان.
تكتيكات الضغط
يستطيع المجلس الأعلى لحكام القوت التكيف والتعامل بشرط ضمان استقرار النشاط والمصالح على ماهو عليه. وكما هو متوقع فإن أعضاء هذا المجلس يفضلون النظام القديم. لكنهم أيضا ككل رأسمال لا يمانعون من التفاهم مع أى حاكم بشرط استمرار تدفق الأرباح والنفاذ لسلطة القرار على الأقل فيما يتعلق باستقرار وضعياتهم. هكذا رأينا الشد والجذب بعد أن تم استيعاب ضربة اسقاط مشروع التوريث. وبين الحين والآخر نرى مصانع تغلق أبوابها أو تعلق نشاطها، أو أزمات تنفجر فجأة وتنطفى فجأة كما حدث فى البنزين والسولار، وأموالا طائلة تغادر عبر البورصة أو فى حقائب لم يوقفها أحد.
وإلى جانب الاختناقات التى تتيحها السيطرة على مقاليد الحكم فى ساحة الرزق، يحتكر هؤلاء الحديث باسم الاقتصاد. فبترسانة المحللين والأكاديميين والاعلاميين والتكنوقراط فى أجهزة الدولة، تتسرب يوما وراء يوم سياسات الفزع التى تبرر لاستمرار نفس السياسات القديمة، وكأنها قوانين فيزيائية لا يمكن الفكاك منها. فتضيق الخيارات وتتم محاصرة المصالح المضادة، مصالح الأغلبية، بهدوء.
وكما هو الأمر فى مواجهة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، هناك طريقتان للتعامل مع المجلس الأعلى لحكام القوت: الأولى هى صياغة تحالف جديد بناء على التفاوض (هو أمر لا يمانع قادة المجلس فيه إذا حققوا شروطهم حتى لو اضطروا لإطلاق اللحى). وبالفعل هناك مؤشرات على قيام جناح من جماعة الإخوان المسلمين باستكشاف هذا الخيار وتطويره. أما الثانى فهو خيار كل من يرغب فى استمرار الثورة لمطالب الشعب فى تحرير القوت وإطلاق الإنتاج: حرب مباشرة للإطاحة به بالانحياز الكامل والاستناد الثابت على مصالح ملايين المصريين، أصحاب الحق الشرعيين فى السلطة والثروة.
•••
فوجيء عمال قوطة للصلب الواقفون أمام مجلس الوزراء بمتظاهرين آخرين ينضمون إليهم لكنهم يرفعون لافتات تندد بزيارة إمرأة ذات اسم أجنبى، ويرفضون قرضا تعتزم حكومة الرئيس المنتخب الحصول عليه. يقرر العمال النأى بأنفسهم والانتقال إلى الرصيف الآخر من شارع قصر العينى. يبدأ المحتجون على قرض الصندوق فى الهتاف: وآدى شروط البنك الدولى جوع ومذلة وغلا أسعار، فتشخص الأبصار فى تساؤل. ثم فجأة تتحد الحناجر بشكل عفوى من الرصيفين على هتاف واحد بينما تلتقى الأعين عبر الشارع: ثوار أحرار هانكمل المشوار.