إنه لشىء مؤسف أن تكون تابعا.. أن يكون مصيرك الاقتصادى فى يد أحد غيرك سيفضل نفسه عليك بالطبع إذا تعارضت المصالح. والأسف هنا مرجعه ليس فقط ماديا، وإنما أيضا نفسيا وسياسيا. فالتبعية تهدم صورتك، أمام نفسك وأمام الآخرين، كإنسان حر ومستقل لا يخضع إلا لما تمليه عليه مصلحته وعقله وضميره. التبعية كريهة فى الاقتصاد كما فى السياسة، لا أحد ينازع فى ذلك، إذن ما هو موضوع التبعية فى مصر؟
الموضوع الدائر الآن هو تحديد من التابع ومن الأكثر تبعية؟ المعارضة «المدنية» تتهم الحكومة أحيانا أنها تابعة للخارج، والمعارضة «الدينية» تتهم الحكومة بالتبعية الثقافية والأخلاقية لما يسمى بالغرب. والحكومة من جانبها تتهم المعارضة أحيانا بالتبعية لأجندات خارجية. كما يلاحظ القارئ الكريم، الحديث عن التبعية فى مصر مُلغم بأصابع مشهرة تجاه أفراد وجماعات تتهمهم، فيرد الآخر الاتهام بأقوى منه، فنسقط جميعا فى حالة من التوتر والغضب التى لا تُنتج أى نقاش جدى.
ماذا لو عدنا إلى أصول الأشياء؟ إلى الاقتصاد؟ فالاقتصاد وحده هو القادر على وضع المسألة على أرضية صلبة، أرضية الحسابات الباردة. ألم تخرج فكرة التبعية من رحم علم الاقتصاد السياسى؟ لقد قلنا سلفا إن التبعية مذمومة. لكن الأقسى منها أن تعانى من الفاقة أنت وأهلك وأصدقاؤك وجيرانك، والأقسى منها أن تفوت على نفسك الدخول فى علاقات فيها مكاسب لكل أطرافها خوفا من الوقوع فى «فخ التبعية».
بدون وضع موضوع التبعية على أرضية الاقتصاد سيظل الحديث عن التبعية كلاما أخلاقيا فارغا، حديثا عصابيا تتعالى فيه الحناجر وتسكت فيه العقول.
نظرية التبعية التى تعلمتها من كتب الأساتذة تقول باختصار إن التبعية الاقتصادية هى التبعية الأم التى تنبثق منها كل أنواع التبعية الأخرى.. لا طائل من الحديث عن استقلال سياسى أو ثقافى إلا إذا عملت أولا على الفوز باستقلالك الاقتصادى. فما التبعية الاقتصادية إذن؟ هل أن تستورد من الخارج؟ بالطبع لا.. فلا عيب فى ذلك.
مصر فى عز مجدها كانت تستورد العاج و البخور واللبان، كما كانت تستورد الأفكار والتكنولوجيا. ألم نتعلم ركوب الخيل فى الحروب وغيرها من الهكسوس؟ التبعية إذن ليست فى الاستيراد فى حد ذاته، وإنما فى ماهية ما نستورد. زمان مصر كانت تستورد سلعا بسيطة، فيها قليل من العمل مثل العاج الذى لا يتطلب أكثر من صيد الفيل وسلخه، وتصدر أرقى منتجات العمل مثل القمح الذى كان يقتضى أعمالا معقدة من ترويض للنهر وتنظيم للرى وتنسيق كل ذلك بواسطة جهاز بيروقراطى محترف. أما اليوم فبمعايير اللحظة التاريخية، مصر لا تصدر إلا سلعا بسيطة لا تتطلب غالبا عملا خلاقا مثل البترول والغاز وبعض الحاصلات الزراعية.
فكيف يمكن تغيير ذلك؟ الإجابة سهلة جدا وصعبة جدا، أن ننتج سلعا ذات قيمة مضافة مرتفعة، سلعا فيها عمل يدوى وذهنى راقٍ، لكى نستهلك جزء منها ثم نصدر الفائض. الصعوبة تأتى من أن إنتاج مثل هذه السلع يتطلب إعداد إنسان مؤهل لذلك بدنيا ونفسيا وعقليا، وهذا الإعداد مُكلف فى الوقت والجهد. لكن بعضنا لا يريد أن يعمل، والبعض الآخر لا يريد إلا أن يعمل على هواه، والبعض الثالث لا يمارس عملا منتجا ويحصل على عوائد خرافية، هذا بينما من تنقطع أنفاسه فى العمل من المصريين إما لا يحصل على العائد المادى العادل، أو لا يحصل على تقدير معنوى يكافئ عرقه. العدالة الاقتصادية والاجتماعية فى مصر غائبة، وكلنا نعرف ذلك.
المشكلة أيضا أن بعضنا أدمن الاستيراد فبات يتعيش منه جزئيا أو كليا وصارت له كلمة مسموعة فى دوائر الحكم التى انغمست هى الأخرى فى نشاط استيرادى محموم. المشكلة علاوة على ذلك أن النزعة «الوطنية» التعصبية فى الدين أو فى السياسة أو فى الثقافة أو حتى فى الكرة يصاحبها تعصبا معاكسا فى السوق تجاه كل ما هو منتج وعمل مصرى. إننا نعانى من عقدة خواجة فى الاقتصاد، يقابلها عقدة عظمة فارغة، وكراهية شديدة للأجانب فى السياسة والثقافة والدين. نحن فى الحقيقة نحاول أن نغسل فى السياسة والثقافة والدين ما نمارسه من رذيلة فى الاقتصاد. لكن بلا جدوى، فعقدة الذنب لن يمحيها إلا الوصول إلى بيت الداء لغسله وتطهيره.
الأسئلة المهمة التى طرحتها نظرية التبعية هى: كيف لنا أن ندخل فى علاقات اقتصادية وسياسية متكافئة مع البلاد الأخرى، لا نستغل فيها ولا نُستغَل؟ كيف لنا أن نعمل لصالحنا ولصالح بنى البشر أجمعين؟ وما التغييرات الداخلية المطلوبة فى الاقتصاد كما فى السياسة لكى نصل إلى تلك الأهداف؟ هذه هى الأسئلة التى تهنا عنها، سواء لأننا صدقنا أن هناك مرحلة جديدة فى الاقتصاد العالمى تُسمى «العولمة»، مرحلة ستعفينا من طرح هذه الأسئلة بما أن العالم فيها أصبح قرية واحدة، إلى آخر هذا الكلام المغرق فى التبسيط المخل، أو تهنا عنها لأن مسيرة «الاستقلال» الثقافى والحفاظ على الهوية الإسلامية أو الأرثوذكسية أو الفرعونية أو التنويرية التى نادى بها المثقفون كشرط مسبق لتحقيق الاستقلال السياسى والاقتصادى لم تكن سوى مُسليات نستعين بها على مرحلة طويلة من الكلام فى التبعية الثقافية عوضا عن التبعية الاقتصادية، أحيانا بحجة الأولويات وأحيان أخرى بذريعة أن الاقتصاد قضية متخصصة لا يصح أن يخوض فيها إلا المتخصصون فيه.
نظريات التبعية الاقتصادية كانت فى عزها إبان الستينيات من القرن الماضى، لكنها بدأت تتهاوى منذ السبعينيات، بفعل ضربات اليمين الصاعد فى العالم، كما بسبب عيوب وثقوب فيها، خاصة فيما يخص نظرتها للدولة فى العالم الثالث التى اعتبرتها أحيانا مجرد عميلة أو تابعة للرأسمالية العالمية والدول الكبرى. وهو الأمر الذى وضح خطأه فى حالة بعض دول العالم الثالث التى قادت التنمية الرأسمالية فيها نحو تبعية أقل. صحيح.. نظريات التبعية أخطأت فى بعض إجاباتها، لكن تظل الكثير من الأسئلة التى طرحتها صالحة. واليوم يتضح أكثر فأكثر أنه لم يكن من المفيد إغلاق ملف نظريات التبعية بهذا التسرع، ثم الجرى وراء نظريات العوملة أو أفكار الحفاظ على الهوية. فبعد كل هذا الجرى الذى انقطعت فيه أنفاسنا، ما زالت أسئلة التبعية الاقتصادية تلاحقنا، وبات علينا أن نعود لقراءة كتب الأمريكى أندريه جوندر فرانك والبرازيلى فرناندو كردوسو والمصريين سمير أمين وفوزى منصور وعادل حسين (فى كتابه عن الاقتصاد المصرى).. نعود لنقرأ ما لم نقرأه منها ولنعيد قراءة ما قرأنا فى الماضى، ولننتقد ما تسرعنا فى إحالته إلى رفوف المكتبات المتربة دون أن نحدد مزاياه وعيوبه. فليراجع كل منا كتبه «الصفراء».