أعطوا الناس مالاً - وائل جمال - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:59 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أعطوا الناس مالاً

نشر فى : الثلاثاء 27 نوفمبر 2018 - 11:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 5 ديسمبر 2018 - 12:01 ص

أعطوا الناس مالاً. في مواجهة ما تفعله التكنولوجيا في القضاء على الوظائف، في مواجهة تطورات العمل في السنوات الأخيرة: تراجع الوظائف اللائقة المستقرة الثابتة، لرفع القدرة التفاوضية للعمال، في مواجهة تراجع الأجور الحقيقية، للتعامل مع اللامساواة المتفاقمة في الدخل والثروة، لتمكين المرأة، في مواجهة الفقر، لعلاج عيوب دولة الرفاه، كبديل لدولة الرفاه، لتقليص الفقر أو القضاء على الفقر، لإنقاذ الرأسمالية والسوق، لتجاوز الرأسمالية والسوق. في كل قضية كبرى تطرح على جدول الأعمال في السنوات الأخيرة، هذه إجابة تتكرر: أعطوا الناس مالاً، بلا شرط، فيما صار يسمى "الدخل الأساسي المعمم".

الدخل الأساسي المعمم يقول بإعطاء كل الناس مرتباً شهريا ثابتاً يكاد يغطي الحاجات الأساسية لهم، دون شروط تتعلق لا بالفقر من عدمه ولا الدخل والثروة، ولا بكيفية إنفاقه، ولا حتى بانتظام الأطفال في المدارس والرعاية الصحية، كالدعم النقدي المشروط، الذي نشهد تطبيق إحدى تجلياته في برنامج تكافل في مصر.

تقول الصحفية الأمريكية آني لوري، التي تكتب في شؤون السياسة الاقتصادية لمجلة ذي أتلانتيك، إن الفكرة ترددت مراراً وتكراراً في عملها الصحفي على مدى السنوات الماضية، وكادت تكون على جدول أعمال انتخابات الرئاسة الماضية بعد أن دفع تبني المرشح الديمقراطي اليساري بيرني ساندرز لها هيلاري كلينتون لمغازلة الفكرة لفترة، قبل أن تتنازل عن تبنيها مبررة ذلك بأنها لم تستطع ضبط أرقام تمويلها.

في كتابها، الذي دخل القائمة القصيرة لجائزة فاينانشيال تايمز لأفضل كتاب اقتصادي في عام 2018 وهي الجائزة التي فاز بها كتاب توماس بيكيتي الشهير قبل سنوات، لا تتوقف لوري عند مناقشة الفلسفات المختلفة وراء الفكرة أو التحفظات عليها، ولا المنطق الاقتصادي لها، وإنما أيضاً تستفيد من مهارتها الصحفية لتنقل لنا كيف يستقبلها الناس وكيف يمكن أن تؤثر على حياتهم، أو كيف أثرت بالفعل على حياتهم في البلدان والأماكن التي بدأ فيها بالفعل تطبيق تجارب مختلفة لتوزيع المال الثابت على الناس، وتنتقل في ذلك بين ولايات مختلفة في أمريكا ثم يأخذها الأمر إلى بلدان أبعد وأفقر ولها خصوصيات مختلفة في أفريقيا وآسيا.

تقول لوري إن الأفكار الكبرى عادة ما تجيء في أثناء الأزمات الكبرى أو في أعقابها، وإن الفكرة الكبرى القادمة، في ظل أزمة الرأسمالية الحالية، هي الدخل الأساسي المعمم. تتحدث لوري عن التحفظ الأساسي الخاص بالتكاليف، في الحالة الأمريكية لتوزيع ألف دولار شهريا على كل شخص، وتقارنها بتكاليف ميزانيات التسليح وبعض برامج الرفاه الفاشلة لتقول إن التكلفة معضلة لكنها ليست مانعة من النظر في تطبيق هذه السياسة. تقدر التكلفة في الولايات المتحدة بحوالي 2.7  تريليون دولار، وبينما تستبعد لوري تمويلها عبر الضرائب، تقترح إلغاء سياسات أخرى فاشلة من وجهة نظرها ككوبونات الطعام وغيرها وتقول إن ذلك قد يعبئ ما يوازي 10 ف المائة من الناتج المحلي الإجمالي. هنا تختلف لوري مع المنظرين الأكثر راديكالية وتقدمية الذين يعتبرون أن السياسة ليست بديلاً لدولة الرفاه (كما يطرح صندوق النقد أو المنتدى الاقتصادي العالمي بناء على تصور كان قد طرحه الاقتصادي اليميني ميلتون فريدمان في السابق: تنسحب الدولة وتعطي الناس مالاً ليتصرفوا كما يشاءون.

تحتاج التكلفة نقاشاً كبيراً وترتبط بالغرض من وراء تطبيق هذه الفكرة. بالنسبة لمصر، يقدر صندوق النقد الدولي تكلفة إحدى صيغ الدخل الأساسي المعمم (بتوزيع 725 جنيه على كل الأفراد بحوالي 3.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، معتبراً أن ذلك سيخفض كثيراً معدلات الفقر واللامساواة) وذلك دون المساس بأي شكل آخر من السياسة الاجتماعية، بينما تحسب منظمة العمل الدولية أن التطبيق قد يكلف ما بين 13 و16 في المائة من الناتج المحلي. وقد قدمت دراسة حديثة لبرنامج حلول للسياسات البديلة تصوراً لإمكانات ومعضلات وفوائد تنفيذه في مصر. وعلى رأس هذه المعضلات في مصر معدلات التضخم المرتفعة.

ترد لوري على التحفظات الأخرى الخاصة بالتطبيق: سيتوقف الناس فوراً عن العمل. سيؤذي الدخل الأساسي المعمم النقابات. البداية من عند عائلة أورتيز التي تعيش في هيوستن. العائلة مكونة من ستة أفراد، الأب تعطله إصابة عن العمل ويعمل في تقليب شرائح البرجر، والأم تعمل في وظيفتين في مطاعم للوجبات سريعة والبنات يمزجون بين الدراسة أحياناً وبين العمل في مطاعم للوجبات السريعة. الدخل ضعيف والوظيفة صارت سقيمة بعد أن حولتها التطويرات التكنولوجية المتواصلة لخلق نمطية في السندوتشات المقدمة وغيرها من العمل عملاً روتينياً مملاً. من خلال عائلة أورتيز ترد لوري على التحفظات المختلفة. لن يتوقف هؤلاء أبداً عن العمل إذا حصلوا على الألف دولار شهرياً، ربما تتحسن قدرتهم على التفاوض ورفض الوظائف البائسة غير اللائقة التي يعملون بها. سيحتاجون للعمل لأنهم يرغبون في إلحاق البنات بجامعات (أمر ليس سهلا بالنسبة لفقراء الأمريكيين). تشير لوري أيضاً إلى تحولات العمل بسبب صعود شركات كأوبر، وما يمكن أن يساهم به الدخل الأساسي المعمم في تحسين موقف السائقين التفاوضي مع الشركات ومعاونتهم على تحسين حياتهم في ظل افتقار وظائفهم حالياً لأي أمان وظيفي أو تأمين أو غيره. 

تتحدث آني لوري مع فقراء كينيا والهند، حيثما يتم تطبيق تجارب في مجتمعات أفقر كثيراً، لتنفي أسطورة أن الفقراء غير راشدين وأنهم سينفقون المال في غير محله.

في استخلاصات كتابها، وباستخدام كينز وأفلام ألعاب الجوع وستارتريك، تشير آني لوري إلى السيناريوهات القاتمة المحتملة أمام البشرية بسبب استخدامات الرأسمالية للتكنولوجيا، وتلخص استنتاجاتها: "لو أن ارتفاع الإنتاجية واللا مساواة التي تفغر الأفواه والبطالة واسعة النطاق، ستحدث بسبب تطورات الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتعلقة بها، فإن العالم سيحتاج لأن يتخذ قراراً بشأن كيفية مساندة العيش الإنساني وضمان المشاركة المتساوية في الاقتصاد والمجتمع. لكن إذا حدثت هذه الظواهر فإن الدخل الأساسي المعمم لن يكون كافياً، كما تشير أفلام الخيال العلمي وكتب الاقتصاد. سيكون من الضروري إحداث تغيير أوسع في فهمنا للقيمة وتعويضات العمل. لابد وأن يتم تغيير القيم النيوليبرالية الخاصة بالأسواق الحرة والمنافسة بلا قيود والنمو الاقتصادي، كمحددات أولية للتقدم الإنساني. يجب أن يصبح كل من الترفيه والراحة والرعاية أساسية في عمل المجتمعات وليس أموراً مساندة أو عرضية".

آني لوري، أعطوا الناس مالاً: كيف سينهي الدخل الأساسي المعمم الفقر ويثّور العمل ويعيد صياغة العالم، نيويورك، دار النشر: مجموعة كراون للنشر، يوليو 2018، 272 صفحة.

Annie Lowrey, Give People Money: How a Universal Basic Income Would End Poverty, Revolutionize Work, and Remake the World, New York, The Crown Publishing Group, July 2018, 272 pages

 

كاتب مصري وباحث في الشؤون الاقتصادية

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات