كتبت فى مطلع مارس الماضى مقالا بعنوان «ترشيد تناقضات الثورة المصرية». جاء فيه أن «السياسة هى فن التوفيق بين الأهداف المتعارضة، وليست المفاضلة، بينها. والظروف التى تمر بها مصر حاليا تؤكد أن المجلس الأعلى للشئون العسكرية والحكومة المصرية تقتضى المهارة والحذر فى التوفيق بين تناقضات نعيشها. وقدرتها على إدارة هذه التناقضات والتوفيق بينها هى التى ستحدد إن كنا نسير فى الاتجاه الصحيح أم لا». وهذه التناقضات تحتاج منا أن نعود إليها لنعرف إن كنا نسير فى الاتجاه الصحيح أم لا.
●●●●
أولا ــ تناقض المساحة الزمنية للفترة الانتقالية: حيث كان يوجد هدفان متعارضان. الأول هو رغبة المجلس العسكرى لأن يترك السلطة فى أسرع وقت ممكن (وقد حددها آنذاك بستة شهور). وكان تقييمى أن هذا بالفعل هدف جيد حتى تعود القوات المسلحة إلى ثكناتها مع تأكيدهم بعدم ترشيح شخص تدعمه القوات المسلحة بما يجنب مصر العودة إلى حكم عسكرى. ولكن هذا يتعارض مع هدف آخر وهو أن هذه الفترة ليست كافية لقيام أحزاب سياسية جديدة تعبر عن مطالب الثورة والثائرين وتقنع عددا كافيا من المصريين بالتصويت لها. وقد قرر المجلس العسكرى حلا وسطا بأن يؤجل خروجه من السلطة لمدة ثلاثة أشهر نزولا على رغبة الكثيرين الذين يريدون فرصة أطول حتى يمكن لهم أن يشكلوا أحزابا سياسية وأن يبنوا قواعد شعبية لهم.
●●●●
ثانيا ــ التناقض بين التعدد الحزبى والفلتان الحزبى: بدا آنذاك تعارض واضح بين الرغبة فى أن يوجد أكبر عدد من الأحزاب لتمثيل مصالح أكبر عدد من المواطنين، وبين الخوف هو أن ننتهى إلى فوضى حزبية نتيجة ارتباط الأحزاب بالأشخاص أكثر من ارتباطها بالأيديولوجيات والمصالح. وكان الحل الذى تبنته الدولة هو أن تكون الأحزاب بالإخطار بشرط توقيع خمسة آلاف عضو من أعضائه المؤسسين من عشر محافظات على الاقل. ورغما عن أننى كنت أفضل أن يكون عدد الأعضاء المؤسسين أقل من ذلك مع وجود عتبة انتخابية معقولة مثل 5 بالمائة من الأصوات لوضع قيد على عدد الأحزاب التى ستدخل البرلمان، لكن القيد الرقمى العالى نسبيا على تأسيس الأحزاب بالإخطار قد يكون دافعا لأن تتكتل الأحزاب المتشابهة برامجيا فى تكتل واحد.
ثالثا ــ تناقض مكافحة الفساد والإخلال بحقوق الإنسان: قلت آنذك إنه ينبغى التعامل مع قضايا الفساد بحذر شديد أقرب إلى مشرط الجراح وليس ساطور الجزار حتى لا تنال الثورة من الشرفاء الذين لم يخرجوا على قوانين وإنما ارتبطت أسماؤهم بمعاملات عادية مع مسئولين فى النظام السابق. والمعضلة لم تزل قائمة لأن قوانيننا فى معظمها جعلت الفساد ممكنا ومقبولا حتى فى ظل القوانين القائمة، وهنا يكون السؤال الذى طرحته على عدد من القانونيين بشأن مدى إمكانية إصدار قوانين جديدة لمحاكمة مسئولين سابقين محاكمات غير مسيسة مع الحل العاجل للمجالس المحلية. الفكرة ممكنة ولكن واضح أن الإدارة السياسية لا تسير فى هذا الاتجاه.
●●●●
رابعا ــ التناقض بين تصعيد الشباب ومكانة مخازن الخبرة: الثورة فى الأصل كانت ثورة شباب ثم احتضنها الشعب، ولكن لا نريد أن يسود الانطباع بأن هناك فراعين جددا لا يلوون على شىء ولا يستمعون لغيرهم، لكن هناك خوف حقيقى من ديكتاتورية الثورة التى تعنى أن أى صاحب رأى معارض لهدف أو لسلوك أى من الثائرين يتحول إلى تصوير الأمر وكأنه نوع من العمالة أو الخيانة أو فلول النظام. والانطباع السائد لدى الكثير من شباب الثورة أنهم قد استبعدوا من لعب أى دور سياسى وأن نصيبهم حتى من العمل الحزبى لن يعكس حجم تضحياتهم. وهو ما سيقتضى أن نفكر معا فى كيفية الاستفادة من هذه الطاقة النبيلة لدى هذا العدد الكبير من الشباب الذين يعملون باجتهاد من أجل بناء وطن أفضل. وقد اقترحت أن تكون هناك اجتماعات دورية مع قطاعات متنوعة من الشباب للاستفادة من رؤاهم وطاقاتهم وتوضيح الصورة لهم.
خامسا ــ تناقض الإصلاح السياسى والإصلاح الاقتصادى: كان كلامى آنذاك أن هناك تركيزا واضحا على المطالب السياسية ولكن هناك خوف حقيقى إن طالت الفترة الانتقالية أن نجد قدراتنا الاقتصادية تتراجع بشدة مع تعطل السياحة وتوقف الاستثمارات الأجنبية ونزوع القطاع الخاص المحلى إلى عدم التوسع فى الإنفاق. وما طالبت به أن نسرع فى التخلص من بقايا النظام القديم (فى الحكومة والإعلام والمحليات) حتى يعود الاستقرار إلى المجتمع ومن ثم إلى الاقتصاد. ولكن يبدو أننا تأخرنا أكثر من اللازم.
●●●●
سادسا ــ تعارض المثالية المدنية والواقعية العسكرية: قلت آنذاك إن هناك مطالب بعودة المدنيين لإدارة المشهد السياسى من خلال مجلس مدنى رئاسى، ولكن نادرا ما وجدنا صوتا موحدا للقيادات المدنية بعد جلسات نقاش بحيث تقوم بالتعبير عن مصالح الثائرين المصريين، فى مقابل الانضباط العسكرى الواضح والقدرة على الحديث بصوت موحد. ولم يزل المدنيون يفاجئوننا بعدم قدرتهم على العمل بروح الجماعة.
●●●●
سابعا ــ تعارض قداسة الدين مع حسابات السياسة: قلت آنذاك إن هناك حديثا متواترا عند العديد من القوى والجماعات الدينية التى تسعى لتكوين أحزاب سياسية. وهو أمر جد خطير إن لم يسبق ذلك أو يتزامن معه تربية على التسامح السياسى وبناء ثقافة ليبرالية حقيقية. وقد اقترحت آنذاك ولم أزل أقترح إضافة مادة أخرى فى الدستور الجديد، على أن تكون مادة فوق دستورية (أى غير قابلة للتعديل)، تؤكد على حل أى جماعة أو حزب يتبنى رؤية سياسية تقوم على التفرقة بين المواطنين بسبب الاعتقاد الدينى ويكون القرار فى هذا الصدد لمحكمة النقض، حتى نضمن لأتباع الجماعات الدينية حقهم فى أن يشاركوا فى حياتنا السياسية كمواطنين مصريين مع ضمان أن تكون حركتهم منضبطة فى حدود ما يحفظ الوحدة الوطنية.
ثامنا ــ معضلة الاستيعاب والاستبعاد: والذى كان يناقش بقاء الحزب الوطنى أو حله، وقد حسم القضاء هذه المسألة، ولم يزل القضاء ينظر فى مسألة منع أعضاء الحزب من المشاركة فى الحياة السياسية لفترة من الزمن.
●●●●
تاسعا ــ معضلة الديمقراطية غير الليبرالية: كتبت آنذاك إن الديمقراطية هى مقاومة استبداد الحكومة على المواطنين من خلال حكم الأغلبية، والليبرالية السياسية هى مقاومة استبداد الأغلبية بالتأكيد على أن هناك حقوقا أساسية للأقلية لا يمكن أن تنتهك بسبب قرار تتخذه الأغلبية. المشكلة فى مصر أن الديمقراطية تبدو أقرب إلى أيدينا من التسامح السياسى، وهنا نكون أمام معضلة إجراءات الديمقراطية بلا أخلاقياتها مثل من يقود السيارة ولا يعرف آداب المرور، فيقتل من يقتل ويصيب من يصيب. وهو ما يجعلنا بحاجة حقيقية لدورات مكثفة فى التسامح السياسى وقبول الآخر فى مجتمع ستنفتح شرايينه للتعبير والتمثيل دون اهتمام كاف بالمادة التى ستمر عبر هذه الشرايين. وما الحوار الوطنى الأخير إلا مثال واحد من أمثلة عديدة تؤكد أننا بحاجة للعمل الدؤوب فى هذا الاتجاه.
●●●●
لم نزل نعيش فى تناقضاتنا وسنظل كذلك إلى أن تمر هذه المرحلة الحرجة. ورغما عن البطء لكن إجمالا أزعم أننا نسير فى الطريق الصحيح. وأعظم ما فى كل تناقضاتنا، أننا نكتب معا مستقبلنا الذى سيكون أكثر إشراقا قطعا. هناك تنافس داخل السفينة، لكنها تسير فى الاتجاه الصحيح بقدرتها على تصحيح نفسها.