ثورة مصر كانت بالتأكيد مدنية. كلمة مدنية هنا تعود إلى المدينة باعتبارها مرادفا للحضارة الإنسانية الحديثة التى لا تفرق بين رجل وامرأة، مسلم وغير مسلم. لم تكن الثورة المصرية علمانية. فهى لم تطالب بفصل الدين عن الدولة وعن السياسة. نعم كان هناك علمانيون فى الثورة. لكنهم ــ ومنهم كاتب هذه السطور ــ تقبلوا عن طيب خاطر العواطف الدينية ــ إسلامية ومسيحية ــ التى عبرت عن نفسها فى الثورة لأنها عملت فى سبيل هزيمة النظام المستبد. من ينسى صورة الحشود المسلمة التى اصطفت لإقامة الصلاة على كوبرى قصر النيل فى مواجهة آلة القمع ولم تعبأ بخراطيم المياه التى أغرقتها فى شتاء يناير القارس. من ينسى الإيمان والإصرار الأعزل الذى هزم الجنود المدججين بالسلاح؟ من ينسى لقطات المسيحيين بميدان التحرير وهم يقيمون الصلاة وينشدون ترتيلة «بارك بلادى» التى رددها الآلاف من المسيحيين والمسلمين. من ينسى صور آلاف المصريات وهن يشاركن بكل قوة فى مقدمة الصفوف، محجبات وغير محجبات. ثورة مصر كانت روحها مدنية. وهى ثورة مصرية بقدر ما كانت مدنية. فلو اقتصرت الثورة على الرجال والمسلمين ما كان لها أن تصبح ثورة مصر.
●●●●
ولكن الثورة كانت أيضا مصرية لأنها قامت على أكتاف طبقات عديدة. فشارك فيها الغنى والفقير، أبناء الطبقات الميسورة المتعلمة تعليما جيدا الذين نظموا أنفسهم على الفيس بوك، وأبناء الطبقات الشعبية الذين ببسالتهم وشجاعتهم هزموا قوات الأمن المركزى. يخطئ من يظن أن الثورة كانت لتنجح دون المشاركة القوية للطبقات الشعبية ودون أن ترفع شعار العيش والعدالة الاجتماعية الذى تردد بقوة طوال أيام الثورة. وبالمثل يخطئ من يظن أن عبور مصر من المرحلة الانتقالية الصعبة إلى نظام ديمقراطى صلب قادر على الاستمرار يمكن أن يصير مع تجاهل مطالب الثورة فى العدالة الاجتماعية أو تأجيلها. لا يمكننى تفسير الضعف الحالى فى اهتمام الطبقة السياسية المصرية بالعدالة الاجتماعية إلا بأن روح الثورة لم تنفذ بعد إلى قلبها. فلا يزال الجزء الأعظم من الثوار عازفا عن الدخول فى السياسة الحزبية أو مهمشا فيها.
●●●●
شعار الدولة المدنية لا يخاطب إلا أقلية من الشعب المصرى. صحيح أن قيام الدولة الديمقراطية المدنية التى لا تتسلط عليها مجموعة سياسية باسم الدين سيكون بالتأكيد فى صالح الشعب المصرى كله. فاستبداد الأغلبية ما هو فى الحقيقة إلا استبداد أقلية تتحدث باسم الأغلبية. مثال واحد: الحكم الدينى فى إيران لا يضطهد فقط الإيرانيين السنة ولكنه يمارس القمع على الأغلبية الشيعية التى تريد التحرر من تسلط رجال الدين على السياسة. والحكم الدينى إذا حكم اليوم بمقتضى صندوق الانتخابات، فهو سيحكم غدا بمقتضى الادعاء بأن الدين فى خطر وأن حمايته تتطلب العصف بصندوق الانتخاب.
صحيح أن الدولة المدنية هى فى صالح مستقبل مصر كلها، لكن هناك قطاعات مهمة من الشعب المصرى لم تجرب الحكم الدينى الصرف، ولم تتح لها الفرصة أن تتعرف بنفسها على مشكلات تسلط رجال الدين على السياسة أو أن تطلع على تجارب شعوب أخرى نزفت دما وخرابا بسبب الحكم باسم الدين. شعار الدولة المدنية لا يمكن أن يكتسح إلا فى أوساط الأقليات الدينية، وفى أوساط المسلمين الذين يدركون مصائب نظام الحكم الذى يتسلط باسم الدين. المرجح أن أغلبية الشعب المصرى مهمومة اليوم أساسا بقضيتين، الظروف الاقتصادية الصعبة، وانهيار جهاز الدولة، خصوصا جهازها الأمنى الذى ترك الشعب يواجه البلطجة بقدراته الذاتية.
وعلى هذا فإن خوض المنافسة السياسية فى هذه المرحلة الانتقالية تحت شعار الدولة المدنية ليس بمقدوره أن يستدعى إلا أقلية من الشعب المصرى. من يرغب فى الفوز بتأييد قطاعات أكبر عليه أن يوسع من برنامجه لكى يركز على القضايا الاقتصادية والاجتماعية. وهنا لا ينفع تزيين برنامج يرتضى بالحفاظ على الوضع الاقتصادى والاجتماعى السائد بشعارات عامة عن العدالة الاجتماعية. فالناس ليسوا أغبياء. بالإضافة إلى ذلك فإن التركيز على موضوع الدولة المدنية فى مواجهة الدولة الدينية باعتبارها القضية الوحيدة المهمة هو خطأ سياسى قاتل لأن التيارات الدينية تعمل بكفاءة على أرضية الاستقطاب المدنى/الدينى. وهذا ما عايناه بأنفسنا فى حالة الاستفتاء على تعديل الدستور الذى نجحت فيه تيارات دينية فى حشد الملايين وراء اختيار نعم بحجة أن دين الدولة مهدد، بالرغم من أن هذا الموضوع لم يكن مطروحا أبدا للتصويت. من يرد أن ينافس التيارات التى تخلط الدين بالسياسة عليه أن يسحبها فى مياه القضايا الاقتصادية والاجتماعية، تلك المياه التى لا تجيد السباحة فيها.
●●●●
من لا يتعلم من التاريخ يخسر. آخر ثورة شعبية قام بها الشعب المصرى قبل ثورة 2011 كانت ثورة 1919. لقد حققت الثورة انتصارا جزئيا مهما، فحصلت مصر على استقلالها الرسمى بالرغم من استمرار الاحتلال، وفازت البلاد بنظام دستورى ليبرالى بالرغم من كل عيوبه. لكن لم يصمد هذا النظام طويلا لأنه قام على تجاهل مشكلة التفاوت الاجتماعى الصارخ الذى عانت منه مصر. لم تعرف برلمانات المرحلة شبه الليبرالية عاملا واحدا أو فلاحا صغيرا استطاع أن ينفذ إليها. هذه القاعدة الضيقة التى قام عليها النظام شبه الليبرالى تفسر إلى حد كبير الانهيار السهل لذلك النظام فى مواجهة حركة الضباط الأحرار التى رفعت شعارات العدالة الاجتماعية وحققت بعض المكتسبات للطبقات الشعبية. بدون الأرضية الطبقية الضيقة للنظام شبه الليبرالى لا يمكن أن نفهم كيف تقبل الناس إلغاء الأحزاب وقيام سلطة مستبدة بدون معركة حقيقية. ثورة 1919 كانت مدنية مثلها مثل ثورة 2011. بل هى فى الحقيقة كانت أكثر منها مدنية.
فالمكتسبات التى حققتها المرأة المصرية والأقليات الدينية ــ بمعيار اللحظة التاريخية ــ فى تلك الثورة يفوق ما تحقق حتى الآن من ثورة 2011. لكن ثورة 1919 تكسرت وتراجعت بسبب سيطرة الباشوات على الحياة السياسية المصرية. إذا كان لثورة 2011 أن تستكمل مسيرتها وتحقق كل أهدافها فهى يجب ألا تنسى أن شعار العيش والعدالة الاجتماعية كان من أهم شعاراتها وأن هذا الشعار رفعه الثوار من الطبقات الوسطى وليس فقط من الطبقات الشعبية، لأنهم مدركون أنه لا قيامة فى مصر لديمقراطية حقيقية بدون أن تصل هذه الديمقراطية إلى الناس فى معاشهم اليومى. من يريد أن ينحاز الشعب لقيام دولة مدنية عليه أن يقيم تحالفا صلبا بين هدف الدولة المدنية وهدف دولة العدالة الاجتماعية.