بينما المصريون مشغولون بمصير الجنود المختطفين فى سيناء، وبالأزمة الاقتصادية، وبانقطاع الكهرباء، وبالاستعداد لامتحانات المدارس، إذا بمجلس الشورى يصدر تشريعا ضريبيا جديدا يهدف إلى زيادة الحصيلة ومواجهة العجز المنفلت فى الموازنة العامة للدولة والذى فاق كل الحدود الآمنة وغير الآمنة.
لا بأس ان تسعى الحكومة لزيادة الحصيلة الضريبية، فهذا أمر طبيعى وضرورى فى ظل الظروف الاقتصادية الراهنة. ولكن المؤسف حقا ان يجرى ذلك فى اطار من الغموض والارتجال وقلة الاستعداد بما يجعل اية عوائد محتملة تتلاشى وتتقلص بجانب ما يحدثه هذا التخبط من ضرر بالغ على مصداقية النظام الاقتصادى وعلى ثقة الناس فيه. ولنأخذ موضوع الضريبة على مخصصات البنوك مثالا على ذلك.
المخصصات ببساطة هى الاموال التى يقتطعها البنك ويحتجزها من عائد نشاطه لكى يقابل بها الخسائر المحتملة التى قد تواجهه مستقبلا إذا لم ينجح فى تحصيل بعض الديون من عملائه المتعثرين. فالبنوك التجارية عملها الرئيسى هو قبول أموال المودعين الراغبين فى الادخار من جهة ثم إعادة تسليف هذه المبالغ من جهة أخرى إلى من يريدون الاقتراض لأسباب شخصية أو لتمويل نشاط اقتصادى. والبنك حينما يقرض أموالا فانه لا يفعل ذلك من موارده الخاصة وانما باستخدام أموال المودعين الذين سلموه مدخراتهم لكى يحافظ عليها ويستثمرها بالنيابة عنهم. ولذلك فان واجب البنك المركزى هو التحقق من ان البنوك تتخذ الاحتياطات الكافية لاسترداد الأموال التى تقرضها وانها لا تغامر أو تخاطر بمدخرات الناس. من هذا المنطلق فان البنوك المركزية فى العالم كله تجبر البنوك التجارية على تكوين مخصصات لمواجهة الديون المشكوك فى تحصيلها أولا باول حتى لا تفاجأ مرة واحدة بتراكم هذه الديون وبضياع أموال المودعين.
والبنك المركزى المصرى، طوال السنوات العشر الماضية، لم يتأخر عن اتباع ذات النهج العالمى، فالزم البنوك العاملة فى مصر بتجنيب مخصصات لمقابلة الديون المتعثرة بما جعل القطاع المصرفى المصرى يخرج من الأزمات المالية المتكررة طوال العقد الماضى سليما ومستقرا وواقفا على أرضية صلبة، وهى سياسة أعلن محافظ البنك المركزى الجديد عن تمسكه بها. ما يهمنا انه بالاضافة إلى الالزام بتكوين هذه المخصصات فان القانون المصرى كان ــ حتى الاسبوع الماضى ــ يسمح للبنوك باعتبار نسبة ثمانين فى المائة من تلك المخصصات من التكاليف التى يمكن خصمها من الضريبة السنوية. لماذا؟ لان البنك حينما يجنب هذه الاموال ويمتنع عن استخدامها فانها تصبح تكلفة عليه وعبئا واجب الخصم من أرباحه الخاضعة للضريبة.
ثم وجدت الحكومة نفسها عاجزة عن توفير الموارد لسد عجز الموازنة، فقررت العدول عن هذه المعاملة الضريبية واعتبار المخصصات جزءا من الوعاء الخاضع للضريبة دون النظر لحقيقة ان البنوك بهذه الطريقة سوف تسدد ضرائب على اموال قد تخسرها مستقبلا، ودون الاكتراث بما يؤدى اليه ذلك من تشجيع للبنوك على التقاعس عن تكوين تلك المخصصات. وبرغم ان هذا لا يعنى ان أموال المودعين قد صارت فى خطر نظرا لان البنك المركزى مستمر فى إلزام البنوك وبمنتهى الحزم بتكوين المخصصات اللازمة بغض النظر عن معاملتها الضريبية، الا ان الواقع يظل ان هذا تعديل قانونى يسير عكس المنطق وعكس الاتجاه العالمى.
هذا عن موضوع المخصصات. ولكن ما يستدعى التوقف والتأمل هنا ليس مجرد المعاملة الضريبية للبنوك، وانما الأسلوب الذى جرى به اصدار هذا التعديل وما يعبر عنه من خلل بالغ فى اسلوب إدارة الاقتصاد.
فالتعديل الخاص بالمخصصات لم يكن واردا فى المشروع الذى جرى عرضه من الحكومة وتمت مناقشته فى اللجان، بل تم الدفع به فى اللحظة الأخيرة كما لو كان سرا حربيا دون ان يكون هناك داع لذلك. السرية فى التشريع الضريبى تكون مطلوبة بالنسبة لفرض ضرائب أو رسوم على سلع معينة بحيث يخشى ان تتعرض لنقص وتخزين إذا ما تسربت أنباء الزيادات المرتقبة فى أسعارها. اما بالنسبة لتعديل فى المعالجة الضريبية بمخصصات البنوك فلا يعقل ولا يجوز الا تكون معروضة على الرأى العام للحوار قبل إقرارها من البرلمان.
من جهة أخرى فقد فوجئ الناس بعد الاعلان عن صدور القانون وبعد نشره فى الجريدة الرسمية انه قد صدر دون موافقة البنك المركزى المصرى ومحافظه ــ على نحو ما صرح به المحافظ فى مختلف وسائل الإعلام ــ برغم ان هذا تعديل يؤثر تأثيرا مباشرا على البنوك وعلى القطاع المصرفى، وبرغم ان عدم استشارة المحافظ والحصول على موافقته يتعارض مع المنطق ومع الأعراف الدولية بل ومع قانون البنوك المصرى. الأدهى من ذلك انه غير واضح من الذى اقترح هذا التعديل اصلا ومن وافق عليه، اذ يتردد انه حتى رئيس مجلس الوزراء لم يكن على علم أو على اقتناع به وان كبار المسئولين فى مصلحة الضرائب فوجئوا بصدوره، الامر الذى يثير مرة أخرى التساؤل عمن يحكم مصر بالضبط.
وأخيرا فان التعديل الضريبى لم يتم تناوله من منظور الأثر المتوقع والتكلفة على نحو ما يجدر باى تشريع ضريبى. هناك خلاف على صفحات الجرائد بين المسئولين والخبراء فى مجال الضرائب حول الحصيلة المتوقعة بحيث لا نعلم هل هذه الحصيلة تحقق الغرض المطلوب؟ وهل تفيد الاقتصاد ام تضر النظام المصرفى؟ وهل هى من متطلبات الاتفاق مع صندوق النقد الدولى؟ وهل تم حساب اثرها على تكوين المخصصات مستقبلا؟ كل هذه أسئلة يجرى الحوار عنها الان كما لو كانت لم تطرح من قبل ولم يحسب حسابها قبل المضى بإصدار القانون، على نحو ما حدث بالضبط فى ضريبة الدمغة التى تم فرضها على معاملات البورصة إذ لم تحقق عائدا يستحق الصداع والاضطراب الذى أثارته فى سوق المال.
ولو كانت هذه المشاكل تقتصر على ضريبة واحدة يجرى فرضها على استعجال لكان الامر محتملا ويكفى لمعالجته صدور تعديل تال من مجلس الشورى. ولكن الواقع اننا أمام حالة مستمرة من التخبط المالى والضريبى، بدأت منذ أصدر رئيس الجمهورية فى ديسمبر الماضى حزمة من القوانين الضريبية، ثم ما لبث المتحدث باسم رئاسة الجمهورية ان خرج علينا فى الساعة الثالثة صباحا معلنا «تجميد» هذه الضرائب (فى سابقة لا مثيل لها فى تاريخ القانون المصرى الذى لا يعرف شيئا اسمه تجميد الضرائب). ومن ساعتها توالت القوانين الضريبية المتناقضة، تعرضها الحكومة، ويقرها مجلس الشورى، وتصدر دون تشاور حتى مع اصحاب الخبرة داخل الحكومة، ثم يبدأ الكلام عن كيفية تعديلها قبل ان يجف الحبر الذى كتبت به.
نحن امام حالة من التخبط البالغ والاضطراب فى الأولويات، ومحاولة لتدبير الموارد من أى مصدر ولو على حساب الاستقرار الاقتصادى، وتجاهل لرأى الجهات الرسمية صاحبة الخبرة والاختصاص، وعدم تقدير للضرر الذى يصيب سمعة الاقتصاد ومصداقيته من جراء هذا الارتجال. فهل من عاقل يعترف بالخطأ ويعيد هذه القوانين الضريبية العشوائية للمراجعة والتصحيح؟ ام ان كرامة الحاكم لا تسمح بذلك؟