منذ ظهوره فى غرب أوروبا نهاية القرن التاسع عشر، وحتى انقضاء القرن الماضى، عكف علم دراسة السكان، بمقارباته الكمية والكيفية، على التحذير من مغبة انفجار سكانى يلتهم موارد الكوكب المتواضعة. ففى عام 1968، حذر باول إرليش، فى كتابه المعنون «القنبلة السكانية»، الذى تأثر فيه بنظرية عالم الرياضيات البريطانى «مالتوس»، التى دقت ناقوس الخطر، خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، جراء تنامى أعداد السكان بمتوالية هندسية وتزايد الموارد بمتوالية عددية، بما يولد عجزا هائلا فى مقومات الحياة من الغذاء والإيواء. الأمر الذى حمل عديد حكومات على تبنى برامج وخطط صارمة لتنظيم النسل.
بمرور الزمن، بدأت تتحقق نبوءات كتاب «الديمغرافيا السياسية.. كيف تعيد التغيرات السكانية تشكيل الأمن الدولى والسياسة الوطنية؟!»، الذى حرره جاك جولدستون، إريك كوفمان، ومونيكا دافى، بداية العقد الماضى، فيما يخص التأثيرات العميقة، التى ستخلفها التغيرات الديمغرافية غير المسبوقة، على الأمن القومى للدول، بأبعاده كافة. وبينما كانت ترتكن معظم التوقعات العالمية إلى توقعات باستقرار عدد سكان العالم خلال الشطر الأخير من القرن الحالى، تفصح أحدث الإحصاءات عن دلالات مفجعة. فباستثناء دول إفريقيا جنوب الصحراء، التى لا تزال تحتفظ بمعدلات نمو سكانى عالية، تبدو الإنسانية على شفا فقر سكانى مدقع وشيخوخة مفزعة. ولقد توقع كتاب «الكوكب الخالى» الذى نشره صحفيان كنديان عام 2019، تناقص سكان العالم، استنادا إلى تراجع معدلات الإنجاب فى الدول ذات الاقتصادات القوية والصاعدة، إلى أقل من معدل الإحلال أو الاستبدال، المقدر بـ2.1 طفل لكل امرأة، فضلا عن بلوغ تعداد سكان الأرض ذروته منتصف القرن الحاضر، بدلا من عام 2060.
تكاد الولايات المتحدة تصبح مجتمعا هَرِما. فخلال العام 2020، أظهرت الأرقام الفيدرالية انخفاض نسبة المواليد بواقع 4%، فى أبطأ معدل نمو سكانى تعهده البلاد منذ عام 1979. وقد ارتفع عدد الولايات التى يزيد معدل وفياتها عن مواليدها من خمس فقط عام 2019، إلى خمس وعشرين فى العام التالى، ما يعنى تفشى الشيخوخة على نحو يستتبع عواقب اقتصادية وخيمة. أما على مستوى القارة العجوز، فلا تحقق دولة أوروبية معدل مواليد يضمن استقرار عدد سكانها، بحيث تنجب كل امرأة 2.1 طفل فى المتوسط. وفى دول منظمة التعاون الاقتصادى، تراجع المعدل إلى 1.6،فى الوقت الذى تقلص عدد الألمان الأصليين إلى 25 مليونا فقط من بين 80 مليون مواطن. ويتوقع خبراء أن ينخفض عدد سكان اليابان من 128 إلى 100 مليون عام 2048، ثم إلى 87 مليونا عام 2060. وبالمثل، انخفضت معدلات الإنجاب فى بقاع غنية بشرق آسيا مثل كوريا الجنوبية واليابان، كما انكمشت بنسبة أقل فى أجزاء من أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.
وبحسب تعداد رسمى أجرى نهاية العام 2020، بلغ عدد سكان الصين 1.411 مليار نسمة، بنسبة زيادة سنوية 5.38 %، ما يعنى انخفاضا فى المواليد بنحو 15 %، وهى الوتيرة الأبطأ منذ خمسينيات القرن الماضى. ففى ظل جائحة «كوفيدــ19»، انخفض عدد المواليد إلى 12 مليونا مقارنة بـ 14.65 مليونا عام 2019، ليبلغ المعدل 10.48 لكل ألف، فى أدنى مستوى له منذ تأسيس الصين الشيوعية عام 1949. بموازاة ذلك، أظهرت نتائج التعداد العشرى الأخير هبوطا حادا فى أعداد المواليد إلى ما دون معدل الإحلال، كما كشفت عن زحف مخيف للشيخوخة فى المجتمع الصينى. وبناء عليه، انتفض ديموغرافيون يحذرون من مواجهة الصين للسيناريو اليابانى أو الكورى الجنوبى، المتمثل فى انخفاض أعداد المواليد مع زيادة عدد المسنين مقارنة بالشباب، خصوصا بعدما توقعت دراسة نشرتها مجلة «لانسيت» العلمية العام الماضى، تراجع عدد سكان الصين من 1.411 مليار إلى نحو 730 مليونا عام 2100، بما ينذر بانقلاب هرمها السكانى، لتتساوى قاعدة الشباب مع متجاوزى الثمانين عاما.
متنوعة هى العوامل التى تمخضت عن ذلك الخلل الديمغرافى. فإلى جانب انخفاض معدل الخصوبة لدى النساء، إذ تراجع فى شانغهاى الصينية إلى ما دون الواحد، ليصير من بين الأدنى عالميا، يبرز تناقص أعداد المواليد الإناث مقارنة بالذكور، الذين يصل معدلهم إلى 119 لكل 100 أنثى، وفقا لمجلة «ساينتيفيك أميريكان»، مع مراعاة دور الثقافة الذكورية بهذا الخصوص. كذلك، تتأثر معدلات الإنجاب سلبا بتقلص عدد الزيجات، وارتفاع مستويات المعيشة، وتطور وسائل تنظيم النسل، وتعليم وتمكين المرأة، التى كثيرا ما تجنح لتأخير الإنجاب لصالح طموحاتها المهنية، فى الوقت الذى يعزف الكثيرون عن الزواج وتكوين عائلات جراء تفاقم كلفة المعيشة. وهو ما أدى إلى انحسار السكان حتى فى البلدان التى اشتهرت بالنمو السريع، مثل الهند والمكسيك، حيث انخفضت بها أعداد المواليد عن معدل الإحلال البالغ 2.1 طفل لكل أسرة، والذى يضمن استقرار وتوازن النمو السكانى.
لا تزال طائفة من العلماء تلمس آثارا إيجابية لانحسار سكان الكوكب، مثل تخفيف الضغوط على الموارد، وتقليص الأضرار البيئية، وتجنب الانفجار السكانى. وبينما تنعم دول الشيخوخة المفرطة بسلام أطول، تكابد بلدان الطفرة الشبابية الذكورية أزمات سياسية واضطرابات أمنية وعنف مجتمعى، إذ ربط صموئيل هنتنجتون فى أطروحته بشأن «صراع الحضارات»،بين انخراط بعض المسلمين فى ممارسات إرهابية، وتكدس بلادهم بالشباب والصبية الذكور. فى المقابل، يتمسك رهط آخر بفرضية البنية العمرية الناضجة، التى تستجلى تأثير الطفرة الشبابية فى إنجاح التنمية وترسيخ الديمقراطية. حيث يرى فى تناقص أعداد البشر انحسارا للأفكار الخلاقة، وانكماشا للقدرة الإبداعية للثروة البشرية، التى تعد مصدر التطور والتنمية، بما يفاقم الأعباء والأزمات الاقتصادية. ومن شأن انخفاض معدلات الإنجاب وزيادة الشيخوخة، أن يقلصا الأيدى العاملة ويوسعا دائرة المتقاعدين، بما يهدد بقلب الهرم السكانى الذى يعتبر الوفرة الشبابية قاطرة لنمو الاقتصادات ورعاية كبار السن.
فى مسعى منها لمواجهة المعضلة الديمغرافية المتمثلة فى شح المواليد وطغيان الشيخوخة، تتبارى الدول فى إجراءاتها التحفيزية لتشجيع مواطنيها على الإنجاب. ففى اليابان، بدأت الحكومة تفتح الأبواب للأجانب عبر التعاقد مع عمالة آسيوية، فيما تشجع روسيا مواطنيها على زيادة المواليد، مع الترحيب بالعمالة الأجنبية، فيما باتت العائلات الروسية تتلقى مكافأة قدرها 6270 دولارا عند ولادة طفلها الثانى.أما الصين، التى تتخوف من أن يحول جمود نموها السكانى دون انتزاع اقتصادها، الذى بلغ حجمه 16 تريليون دولار، المرتبة الأولى عالميا من نظيره الأمريكى بحلول عام 2030، كما ينتابها الهلع من تجاوز عدد سكان الهند البالغ 1.4 مليار نسمة، نظيره الصينى، فى بضع سنين، فقد قررت نهاية مايو الماضى تحرير سياستها الأسرية، بالسماح بإنجاب ثلاثة أطفال لكل زوجين، مع توفير دعم للعائلات. وذلك بعدما لم تؤت إجراءات تخفيف سياسة «الطفل الواحد» عام 2016، بالسماح بإنجاب طفل ثان، أكلها، فيما قوبل إقرار البرلمان، فى مارس الماضى، خطة لرفع سن التقاعد تدريجا على مدى السنوات الخمس المقبلة، باستياء شعبى جارف.
وأطلقت إدارة بايدن «خطة العائلات الأمريكية» بقيمة 1.8 تريليون دولار، والتى تتضمن خفضا ضريبيا على الأطفال، وتوفير رعاية حكومية لهم تشمل إلغاء تكاليف التعليم فى مرحلة ما قبل المدرسة، إضافة إلى برامج الإجازة العائلية مدفوعة الأجر. وفى بولندا، يمنح الوالدان نحو 135 دولارا شهريا لكل طفل حتى يبلغ 18 عاما،فيما تعمل ألمانيا على توظيف النساء، مع تحفيزهن لإنجاب الأطفال، عبر تمديد إجازة رعاية الأطفال، ودعم نظام ساعات العمل المرنة. وبينما يحق للنساء دون سن الـ40،فى الدنمارك، الحصول على ثلاث دورات من التلقيح الاصطناعى بتمويل من الدولة، أممت المجر عيادات أطفال الأنابيب لتشجيع الإنجاب. وفيما ينعته خبراء بسياسة «الديمغرافيا الدينية»، التى تحض المسلمين على الزواج والإنجاب، على الرغم من الظروف المعيشية المتردية، والأوضاع الاقتصادية المهترئة، لا يرعوى مرشد إيران عن المطالبة بمضاعفة عدد سكان بلاده البالغ سبعين مليونا فى المدى المنظور. والشىء ذاته يفعله إردوغان فى تركيا، التى ينيف تعداد سكانها على ثمانين مليونا.
شأنها شأن أبى العلاء المعرى، تبقى مساعى الدول الصناعية لاحتواء معضلتها الديمغرافية، حفاظا على مقومات رأسمالها البشرى، الذى يعد أحد مرتكزات قوتها الشاملة، رهينة المحبسين؛ ففى حين تصارع برامجها التحفيزية لزيادة الإنجاب وتأخير سن التقاعد، طيفا عريضا من التحديات الاقتصادية والثقافية والصحية والقانونية، التى لا يستهان بها، تصطدم مشاريعها الموازية لاستقدام العمالة الخارجية، عبراعتماد سياسات هجرة أكثر مرونة وانفتاحا، بالصعود المربك للتيارات القومية المتشددة وأحزاب اليمين المتطرف، التى يتسع تمثيلها فى أروقة حكومات وبرلمانات تلك الدول، بقدر ما تتعاظم كراهيتها للأجانب، ويتفاقم رفضها استقبال المهاجرين.