انشغلت قبل سنوات بدراسة رواية الاغتراب، تلك التى تدرس العلاقة بين الشرق والغرب، ولاحظت أن مبدعيها انقسموا إلى فريقين: فريق جنح إلى التوافقية كما فى «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم و«قنديل أم هاشم» ليحيى حقى، وفريق انتصر لمقولة الشاعر الإنجليزى «كبلنج»: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، كما فى «أديب» طه حسين و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح و«بالأمس حلمت بك» لبهاء طاهر و«أصوات» لسليمان فياض، وإن تميزت الأخيرة بأن مسرح أحداثها كان الشرق لا الغرب، فقد دارت فى إحدى قرى مصر، وأجبرت بطلتها على إجراء عملية ختان على الطريقة الريفية.
كانت الملاحظة الأهم، أن من تصدوا لهذه المسألة وبعضهم رأى استحالة لقاء الشرق بالغرب، انتهى به الحال إلى الزواج من أجنبية، فقد تزوج طه حسين من فرنسية، وكذلك فعل توفيق الحكيم ويحيى حقى وبهاء طاهر والطيب صالح.
وقد طرحت السؤال على الأديب السودانى الكبير فى حوار مطول نشر فى حينه، وروايته هى الأروع فى هذا الإطار، كما انها واحدة من درر الرواية العربية المعاصرة، وكان بطلها مصطفى السعيد هو الأكثر حيرة فى التعاطى مع هذه العلاقة، والأكثر قسوة فى التعبير عنها، عبر غزوات جنسية سعى عبرها إلى تأكيد سطوته وتميزه، وأشباع رغبته فى الانتقام من حضارة كثيرا ما همشته وسحقته نفسيا وإنسانيا كأى قادم من الجنوب.
وكما هى عادته، وبروحه الساخرة الذكية أجابنى الروائى الراحل: «ياعم عماد أنا مراتى مش اجنبية قوى، دى اسكتلندية يعنى من فلاحين بريطانيا».
إجابة الطيب صالح الساخرة لا تنفى تلك الحقيقة الساطعة كالشمس: نحن نلعن الغرب ليل نهار ونحمله أوزارنا وما آل إليه حالنا، لكننا نتوسله ونتمناه فى كل لحظة وطنا بديلا.
بعض مشاعرنا السلبية تجاه الغرب مبررة، بالنظر إلى حقب طويلة من الاستعمار والاستعباد واستنزاف الثروات، لكننى أشير إلى معادلة تغيب دائما حين نقيم علاقاتنا معه، مفادها أن الطرف الأكثر معرفة هو الأكثر قوة، والأقدر على فرض إرادته وخياراته، ومنذ خمسة قرون على الأقل، فإن هذه المعادلة محسومة، لصالح الغرب طبعا.
فى الحالة المصرية، ترتبط العلاقة مع الغرب بمفهوم الهوية، وهى مسألة أثارت جدلا كبيرا منذ عشرينيات القرن الماضى، وكان طه حسين وأحمد لطفى السيد ومن بعدهما حسين فوزى (السندباد)، هم أكثر المدافعين عن هوية مصر الشرق أوسطية وانتمائها إلى ثقافة البحر المتوسط، وفى الخمسينيات تبلورت بقوة هوية مصر العربية، لتضاف إلى دوائر هوية أخرى، فرعونية وإسلامية وشرق أوسطية، فهل أجلى ذلك المسألة وزادها ثراء وغنى، أم زادها ارتباكا ولخبطة ؟
ظنى أننا مازلنا، وبعد قرن تقريبا من احتدام الجدل حول مفهوم الهوية، نعانى الارتباك ذاته واللخبطة ذاتها، وربما كانت تجربة سنة الإخوان السوداء فى الحكم، كاشفة للأمر كله، فالناس لم ترفض مرسى وأهله وعشيرته لفشلهم فى إدارة الدولة فحسب، وإنما لأنهم عمدوا إلى العبث بهوية هى حصيلة «هويات» تشكلت عبر آلاف السنين، وإن لم تستقر على حالة صارمة حتى اليوم، وإن كنت لا تصدقنى اطرح السؤال على خمسة من أصدقائك وأخبرنى بالحصيلة.
ليس عندى أكثر مما قاله أمين معلوف فى كتابه المهمد«الهويات القاتلة»، فانظر وتدبر..
«كل فرد منا مؤتمن على ميراثين، أحدهما عمودى ورثه عن أجداده وتقاليد شعبه وجماعته الدينية، والآخر أفقى يكتسبه من زمانه ومعاصريه، وبرغم أن الأفقى هو الأكثر تأثيرا فى حياتنا ويتنامى معنا يوما بعد آخر، فإننا نفضل ادعاء الانتماء إلى ميراث الأجداد والتقاليد والجماعة الدينية».