انتشر الوباء فاتخذ كل بلد إجراءات للوقاية والعلاج. أغلقت منشآت أبوابها وتقطّعت سلاسل القيمة العالمية التى ربطت البلدان والاقتصادات، فانكمش العرض من السلع والخدمات، وأدّى هذا بدوره إلى انكماش الطلب عليها. ولأن الطلب على العمل هو طلب مشتق من الطلب على السلع والخدمات، فلقد انخفض الطلب على اليد العاملة. حدث هذا بالنسبة لقوة العمل الوطنية فى كل بلد على حدة، وكذلك لليد العاملة المهاجرة فى بلدان مقصدها. فى التعريفات الدولية، المقصود بالهجرة من أجل العمل هو الانتقال إلى بلدان غير بلد المولد من أجل ممارسة العمل فيها.
للهجرة من أجل العمل وظيفتان أساسيتان فى الاقتصاد المصرى منذ السبعينيات من القرن العشرين. الوظيفة الأولى هى أن تكون منفذا خارجيا لتشغيل قوة العمل المصرية وبالتالى لتخفيف الضغوط على سوق العمل الداخلية، أما الثانية فهى أن تكون مصدرا للتحويلات المالية بالعملات الأجنبية إلى مصر. لهذه التحويلات بدورها وظيفتان، الأولى مساعدة أسر المهاجرين على تلبية احتياجاتها المعيشية، والثانية المساهمة فى سد العجز فى ميزان الحساب الجارى المترتب على العجز المزمن فى الميزان التجارى المصرى. عشرات الملايين من المصريين سافروا للعمل لفترات بلغ متوسطها الست سنوات وعادوا إلى الوطن. الوجهة الأساسية لهذه الملايين كانت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وليبيا والأردن. هذه هى الهجرة التى يعنى بها هذا المقال أساسا وإن كان يشار فى نهايته إلى الهجرة من أجل العمل إلى الدول الأوروبية التى تشترك معها فى الخصائص، وهو يترك جانبا الهجرة الاستيطانية إلى أمريكا الشمالية وأستراليا.
***
فى بلدان الخليج تزامن الوباء العالمى مع انخفاض حاد فى أسعار النفط، وبالتالى فى إيرادات هذه الدول وهى المحددة الأساسية للطلب على العمل فيها، فزاد الانخفاض فى الطلب على العمل انخفاضا. النتيجة كانت أن أعدادا من العمال غير معروفة بدقة، وإن كان شبه المؤكد أنها بالملايين، من كل الجنسيات، إما فقدت فرص عملها وعادت أو لم تعد إلى بلدانها، وإما انخفضت أجورها أو تأخر تسديدها. من ضمن هؤلاء العمال المتأثرين بالتضافر بين آثار الوباء وانخفاض أسعار النفط العمال المهاجرون المصريون. والأثر عليهم امتد من بلدان الخليج إلى الأردن وهى مقصدهم الثانى حاليا خلف المملكة العربية السعودية بعد أن تقلصت الهجرة المصرية إلى ليبيا التى كانت أولى مقاصدها حتى سنة 2011. التأثر فى الأردن نتيجة للإجراءات الاحترازية التى اتخذها أولا وهى ثانيا لأن الاقتصاد الأردنى يتأثر بالحالة الاقتصادية فى الخليج عبر انخفاض الطلب الخليجى على السلع الأردنية وعن طريق تأثر اليد العاملة الأردنية المهاجرة فيه بهذه الحالة. هذه اليد العاملة مصدر للتحويلات المالية التى تنشط الاقتصاد الأردنى.
مثلها مثل كل بلدان المنشأ الأخرى، ليست معروفة بدقة آثار الوباء العالمى على مصر. البيانات الموثوقة عن العائدين ليست موجودة ولا هو معروف كم بقى فى بلدان التشغيل وقد انقطعت سبل أرزاقهم أو تأخر تسديد أجورهم أو انخفضت. الشىء الإيجابى هو ارتفاع قيمة التحويلات المالية للعمال المصريين إلى ذويهم فى مصر فى الربع الثانى من العام الجارى. لم تكن مصر فريدة فى هذا الباب فلقد ارتفعت أيضا التحويلات إلى بلدان منشأ أخرى مثل باكستان وبنجلاديش وكينيا. ولكن البنك الدولى توقع فى أكتوبر الماضى انخفاضا فى التحويلات إلى مصر إلى 24,4 مليار دولار فى سنة 2020 من 25,5 مليار فى سنة 2019 وهو على أى حال توقع بالنسبة إلى إجمالى الدول منخفضة ومتوسطة الدخل انخفاضا فى التحويلات إليها يبلغ 7 فى المائة فى سنة 2019 يليها انخفاض إضافى بنسبة 7,5 فى المائة فى سنة 2021.
***
يأخذنا هذا التوقع إلى الغرض من هذا المقال وهو مناقشة مستقبل الهجرة المصرية من أجل العمل لبيان ما إذا كان يمكن التعويل على الهجرة فى المستقبل لأداء وظائفها المذكورة أعلاه. رأينا أن عاملين محددين أديا إلى تراجع تشغيل اليد العاملة المهاجرة فى بلدان الخليج فى زمن الوباء ألا وهما إجراءات الصحة العامة الاحترازية وانخفاض أسعار النفط. بعض المحللين المتخصصين يرون أن الطلب على العمل فى بلدان الخليج سيرجع إلى سيرته الأولى بمجرد انتهاء الوباء ثم التعافى التدريجى لأسعار النفط الذى سيواكب استئناف الاقتصاد العالمى لنشاطه. سنناقش هذين العاملين مع عوامل أخرى هى أيضا من محددات الطلب على العمل فى بلدان الخليج ألا وهى اتجاه هذه البلدان الواعى إلى اعتماد طرائق للإنتاج ذات قيمة مضافة مرتفعة، وسياسات توطين التشغيل، والموقف من المهاجرين عامة وما يعتريه أحيانا من خطاب كراهية للأجانب.
فى شأن العامل الأول الخاص بالإجراءات الاحترازية، يُذكر أنه فى المديين المتوسط والبعيد، لا يمكن الركون تماما إلى اختفائها عند التخطيط للمستقبل. المنصة الدولية الحكومية بشأن السياسة العلمية الخاصة بالتنوع البيولوجى وخدمات الأنظمة البيئية، وهى منصة خبراء أنشأتها الأمم المتحدة، أصدرت لدى نهاية شهر أكتوبر الماضى تقريرا حذرت فيه من تكرار الأوبئة فى المستقبل يإيقاع سريع ومن ارتفاع ضحاياها إن استمر البشر فى اعتداءاتهم على البيئة. هذا تحذير يثير تساؤلات أوسع بشأن مستقبل العولمة وشكلها ولكنه على أى حال ينبئ بتكرار انغلاق الدول الوطنية على نفسها حمايةً لمواطنيها وما يرتبه ذلك على الأجانب المقيمين فيها، وعلى العمال المهاجرين خصوصا وعلى بلدانهم.
العامل الثانى هو أسعار النفط المرتبطة بالنشاط الاقتصادى. رأى بعض الخبراء فى الربيع الماضى أنه مثلما انخفض النشاط الاقتصادى سريعا عند الإعلان عن الوباء فإنه سيستأنف ويعود إلى مستواه الأول بنفس السرعة بما يؤدى إلى ارتفاع الطلب على النفط ومعه ارتفاع أسعاره وإيراداته وهو ما يرتب ارتفاع الطلب على اليد العاملة الأجنبية فى البلدان المصدرة للنفط. اتضح أن هذه الرؤية جانبها الصواب، فلقد مرّ ما يقرب من الشهور التسعة تراجع أثناء بعض منها نشاط الفيروس دون أن يتعافى النشاط الاقتصادى العالمى وذلك نتيجةً لتباين آثار الفيروس فى الدول المختلفة وبالتالى إجراءاتها الاحترازية وما واكبها من انقطاع سلاسل القيمة المشار إليه أعلاه. غير أن هناك سببا هاما آخر وهو أنه يصعب تماما أن تعود الأسعار إلى سابق عهدها بعد ما أدى إليه تقدم تقنيات استخراج النفط الصخرى من وجود فائض فى الإنتاج.
العامل الثالث هو اتجاه بلدان الخليج إلى اعتماد طرائق للإنتاج مرتفعة القيمة المضافة، أى كثيفة رأس المال والمعرفة، وهو اتجاه عاقل تماما من منظورها لأنه يعتمد على العامل المتوفر بكثرة لديها ألا وهو رأس المال وليس على العامل النادر وهو القوى العاملة. غير أنه من منظور بلدان المنشأ هذا يعنى انخفاضا فى الطلب على عمالها. صحيح أن طرائق الإنتاج مرتفعة القيمة المضافة لا تعنى الاستغناء التام عن العمال منخفضى المهارات، وصحيح أيضا أن اليد العاملة المصرية فى الإمارات وعمان مرتفعة المهارات، ولكنها ليست كلها كذلك فى جميع بلدان الخليج، والمحصلة هى أن زيادة الاعتماد على رأس المال والمعرفة من شأنه انخفاض فى حجم اليد العاملة الأجنبية، ومنها المصرية.
العامل الرابع هو سياسات توطين اليد العاملة، كتلك المعروفة بالسَعوَدَة مثلا، والغرض منها معالجة البطالة بين الوطنيين فى بلدان الخليج. صحيح أن الدراسات المتكررة فى بلدان المقصد، الأوروبية والأمريكية، بينت أنه لا علاقة بين بطالة العمال الوطنيين ووجود العمال المهاجرين الأجانب لأن أسواق العمل مقسمة وهؤلاء وأولئك يعملون فى مهن مختلفة، والنتيجة هى أن هذه السياسات غير ناجحة. ومع ذلك فإنها لا بد أن تؤتى أثرا وإن كان محدودا وهو انخفاض الطلب على اليد العاملة الأجنبية المهاجرة، ومنها المصرية.
العامل الخامس هو خطاب الكراهية الذى يتصاعد أحيانا بدون مبرر مفهوم، وهو للحق ينحسر سريعا أيضا حتى الآن، مثلما حدث مؤخرا فى الكويت، ولكن يمكن تماما تصور أن يؤدى هذا الخطاب إلى تناقص فى الطلب على اليد العاملة المصرية فى بلدان مقاصدها الأساسية فى الخليج.
أما الأردن، وهو المقصد الثانى لليد العاملة المهاجرة المصرية فى الوقت الحالى، فإن أزمته الاقتصادية الراهنة وتأثر يده العاملة المهاجرة إلى الخليج بنفس العوامل المؤثرة فى اليد العاملة المهاجرة المصرية تنبئ بأن طلبه على العمال المهاجرين المصريين يمكن أن يتقلص فضلا عن أن شروط العمل وظروفه فيه قد تتراجع مما يحمل عمّالا مصريين موجودين فيه على العودة إلى مصر.
الخلاصة من التحليل المختصر المتقدم هو أنه لا يمكن التعويل بعد الآن على أسواق العمل الخارجية فى الخليج والأردن لاستيعاب نفس التدفقات السنوية من اليد العاملة المصرية وهى تدفقات تمثل على أى حال نسبا متناقصة من القوى العاملة المصرية المتنامية عموما بمعدلات مرتفعة. ولإتيان بيان على هذه الخلاصة قد يكون مفيدا الإشارة إلى أن إجمالى التحويلات من المملكة العربية السعودية إلى بلدان المنشأ قد انخفض بنسبة 17 فى المائة بين عامى 2015 و2019، أى قبل اندلاع الوباء، وهو ما يعنى تقلص اليد العاملة المهاجرة فيها أو انخفاض أجورها أو السببين معا. فى أحسن الأحوال لن تنمو الهجرة من أجل العمل فى بلدان الخليج بنفس معدّلات نموها السابقة.
المطلوب لمواجهة ذلك هو سياسة مركبة للتشغيل، تخلق فرص عمل لائق فى مصر، وتشترك فى إنتاج سلع وخدمات للسوق المحلية وقابلة للتصدير تدرّ عملات أجنبية تعوِّض عن انخفاض التحويلات أو عن عدم ارتفاعها بما يواكب ازدياد الحاجة إليها. ليس هذا مجال التفصيل فى سياسة التشغيل المطلوبة ولكن نحرص على بيان أنها لا تعنى سياسة للتوظيف فى الإدارة الحكومية بأكثر مما تحتاجه هذه الإدارة.
ملحوظة إضافية ضرورية هى أن الطلب على اليد العاملة المهاجرة هو طلب على مهن بعينها فى قطاعات بذاتها. اعتماد طرائق الإنتاج مرتفعة القيمة المضافة سيعنى تزايد الطلب على الخبراء مرتفعى المهارات، ومنهم مثلا العاملون فى المهن الطبية. تكرار وقوع الأوبئة سيؤدى إلى ارتفاع الطلب على هؤلاء العاملين عموما فى بلدان الخليج وكذلك فى الدول الأوروبية حيث كان جليا وزاد فى الأشهر الأخيرة اتضاح العجز الذى تعانيه فى مهنتى الطب والتمريض وغيرهما من المهن الطبية. سياسات الهجرة والتشغيل والتعليم ينبغى أن تأخذ ذلك فى الاعتبار خاصة وأنه معروف أن مصر تعانى من معدل مرتفع لهجرة الأطباء يؤدى إلى نقص فى الطواقم الطبية يؤثر بشكل خاص فى توفير الخدمات الطبية فى الريف وفى المناطق الفقيرة.
الهجرة من أجل العمل ستستمر لأن أسبابها فى بلدان المقصد والمنشأ لن تتلافى، ولكن المؤشرات تبيّن أن فعاليتها فى أداء الوظائف المتوقعة منها فى مصر ستخفت.
فلتكن أزمة الوباء العالمى فرصة لصياغة سياسات جادة تمكن الاقتصاد الوطنى من الاضطلاع بهذه الوظائف.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة