استندت التحالفات العسكرية والأمنية التى عرفها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ وكذا غالبية النزاعات المسلحة، التى تزج بعالمنا اليوم إلى حافة الهاوية، على «المادة 51» من الميثاق التأسيسى للأمم المتحدة. تلك، التى تندرج ضمن فصله السابع، وتتعاطى مع «حق الدول فى الدفاع الشرعى عن نفسها». إذ تنص على أنه «ليس فى هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعى للدول، فرادى أو جماعات، فى الدفاع عن نفسها، إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة؛ حتى يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين». واشترطت المادة أن يتم إبلاغ المجلس فورا، بالتدابير، التى يتبناها الأعضاء، عملا بحق الدفاع عن النفس، وألا تؤثر على سلطته ومسئولياته المستمرة فى اتخاذ، ما يلزم، لحفظ السلم والأمن الدوليين.
قبل إقرار ميثاق الأمم المتحدة عام 1945، كانت الحرب فى القانون الدولى التقليدى مشروعة، باعتبارها الأداة الأساسية لسياسة الدول الخارجية، ولم يقيدها سوى موازين القوى، مرورا بالاتفاقات الدولية المبرمة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وصولا إلى إنشاء عصبة الأمم مطلع العام 1920. وعلى وقع اندلاع الحرب العالمية الثانية، نشأت الأمم المتحدة، وتم النص فى الفقرة الرابعة بالمادة الثانية من ميثاقها، على «تحريم اللجوء للقوة المسلحة أو التهديد بها فى العلاقات بين الدول». من هذا المنطلق، أضحى حق الدفاع الشرعى، بموجب «المادة 51» من ميثاق الأمم المتحدة، استثناء لنص المادة الثانية من ذات الميثاق؛ مع وضع شروط وضوابط لهذا الحق الاستثنائى، أهمها: أن يظل حق الدفاع الشرعى مقيدا بتعرض الدولة المعتدى عليها لعدوان مسلح. فلا يجوز استخدام القوة دفاعا عن النفس، إلا فى مواجهة عدوان مسلح فعلى؛ سواء كان فى صورة هجوم جوى، بحرى أو برى. أو جاء من قوات نظامية تابعة لدولة معينة، أو من قبل عصابات مسلحة تعمل تحت إمرة دولة معينة وتتلقى منها التعليمات، فيما اصطلح على تسميته «العدوان المسلح غير المباشر». كذلك، يتعين أن يتناسب الرد الدفاعى مع حجم العدوان، وأن يخضع لرقابة مجلس الأمن الدولى، الذى يتوجب على الدولة التى تمارسه، إبلاغه فورا بالتدابير التى تتخذها. وأن تتم ممارسة ذلك الحق بشكل مؤقت، بحيث تتوقف الدولة عن استخدام القوة، فور تدخل مجلس الأمن لتحمل مسئوليته فى اتخاذ التدابير القانونية الفعالة ضد الدولة المعتدية.
وبينما اعتبر نص «المادة 51» تطورا غير مسبوق فى فلسفة القانون الدولى، نددت أصوات عالمية عديدة بالقيود المشددة، التى وضعها ميثاق الأمم المتحدة، على التعامل مع التحديات والتهديدات العالمية المستحدثة، مثل انتشار وتطور أسلحة الدمار الشامل، وتنامى الأنشطة الإرهابية. ومن ثم، ظهرت مطالبات من لدن أطراف دولية وازنة بضرورة مراجعة وإعادة تفسير نص «المادة 51» لجهة «حق الدفاع الشرعى عن النفس». فزمانيا، يسمح النص باستخدام القوة المميتة، فقط لمنع هجوم وشيك. وجغرافيا، أتاح استهداف دول أو جماعات مسلحة غير نظامية فى أى مكان. وقانونيا، خول الدول القيام بعمليات عسكرية، غير توافقية، على أراضى دولة أخرى، وضد الجماعات المسلحة، التى تشكل تهديدا مباشرا ووشيكا لهجوم عليها؛ إذا كانت الدولة المضيفة «غير قادرة أو غير راغبة» فى تحييد التهديد، الذى تشكله تلك الجماعات المسلحة.
بين ثنايا ذلك الجدل القانونى والسياسى، تم تسليط الضوء على مفهوم «الدفاع الوقائى»، أو «الهجمات الاستباقية». وهى الحرب، التى تبادر بها الدولة لإحباط عدوان مستقبلى، أو منع خطر متوقع حدوثه لاحقا؛ شريطة ألا تبلغ تلك التحركات الوقائية مستوى إعلان الحرب على طرف آخر. ولقد بادرت إسرائيل بتبنى ذلك النهج فى تبرير عدوانها على المفاعل النووى العراقى عام 1981. ثم فى استهدافها قيادات ما يعرف بعناصر وقيادات «محور المقاومة» فى بقاع شتى. وهى نفس الاستراتيجية التى اعتمدتها الولايات المتحدة رسميا عام 2002، فيما عرف، حينها، «مبدأ بوش للدفاع الوقائى»، الذى يستهدف أى دولة يستشعر فيها الأمريكيون تهديدا مستقبليا. فعقب هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001، أكد، بوش الابن، فى خطاب ألقاه مطلع يونيو 2002، فى ويست بوينت، أن «لجوء واشنطن للحرب كخيار أخير، ردا على أى هجوم واقع، انطلاقا من مبدأ الدفاع عن النفس، أضحى سياسة بائدة، بل وخطيرة. ويجب عليها فى ظل التحديات المتصاعدة كمثل تفاقم الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل، ألا تنتظر أن يهاجمها أى عدو أولا، وإنما يجب أن تكون فى حرب دفاعية مستمرة ضد أعدائها الجدد، الذين يشكلون تهديدا مستمرا لأمنها القومى، وأن تلجأ للاستباق، توقيا للهجمات المتوقعة». ولقد شكل المبدأ، الذى تجلت ملامحه إبان الحربين الاستباقيتين الأمريكيتين فى أفغانستان عام 2001، ثم العراق 2003، عرفا دوليا، يسوغ اللجوء لاستخدام القوة فى العلاقات الدولية.
يعتقد خبراء أن «حق الدفاع الشرعى عن النفس»، يتضمن «الدفاع الوقائى»،الذى تمت شرعنته قبل تأسيس الأمم المتحدة، مع اشتراط الضرورة والتناسب. أما ميثاق الأمم المتحدة، فسمح بالدفاع الوقائى ضد هجوم وشيك الوقوع، مع توفر شرطى حتمية فعل الدفاع، وتناسبه مع مستوى العدوان. وقد استعان الميثاق الأممى، فى هذا الصدد، بالقانون الدولى التقليدى والعرف الدولى السابق على صياغة الميثاق، واللذين سمحا بالدفاع الاستباقى، المرتهن بتوفر أركان الهجوم الوشيك، مثل الضرورة والتناسب.
فى المقابل، لا يرى غالبية فقهاء القانون الدولى مشروعية للدفاع الوقائى، استنادا إلى عدة معطيات: أبرزها: أن الميثاق الأممى فى مادته الثانية، التى تحظر الاستخدام الأحادى للقوة، استبعد الحق فى الهجوم الاستباقى، انطلاقا من كونه يشكل انتهاكا للقانون الدولى، ما لم يتم بتفويض من مجلس الأمن. كما أن السماح باستخدام القوة فى حالة الدفاع الوقائى، ربما يفتح الباب أمام أعمال انتقامية وعدوانية بدعوى الدفاع الشرعى. وبخصوص تعاظم تهديدات الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، يتعين على الدول المستهدفة تطوير وتفعيل استراتيجيات الإنذار المبكر، بما يعزز قدراتها على حماية نفسها. تكمن معضلة الشرعية الدولية مع «حق الدفاع الشرعى»، فى تسييس ذلك الحق، عبر مسارات متوازية، أهمها: اختلاف مقاربات تفسير وتأويل نصوص القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة؛ علاوة على حدود وضوابط استخدام القوة فى الرد، الدفاع، أو ردع المعتدى. فضلا عن أدلجة ولا مركزية القواعد القانونية الناظمة للعلاقات بين الدول. ذلك أن التطبيق الانتقائى للشرعية الدولية، يجعلها مفهوما غامضا، لا يعبر إلا عما يبتغيه واضعوه. ناهيك عن تسييس وأدلجة القانون الدولى. إذ لا تعبر نصوصه وقواعده عن قيم الحق والعدل، بقدر ما تعكس توازنات القوى والمصالح، وأيديولوجيات الأطراف المسيطرة فى كل عصر. وقد تجلى السمت الأيديولوجى للقانون الدولى فى الجدل بشأن مشروعية استخدام القوة فى العلاقات الدولية. فمنذ منتصف القرن السابع عشر، حتى عشرينيات القرن الماضى، كان القانون الدولى يمنح الدول حق الغزو والاستيلاء. فبينما كانت الدول الأوروبية تسن قوانينها لتنظيم علاقاتها البينية، مرتكنة على مبدأ المساواة فى السيادة؛ لم تتورع عن بلورة قواعد لتسويغ أنشطتها الاستعمارية، حيث التأم مؤتمر برلين (1884ــ1885)، لتقسيم القارة الأفريقية بين المستعمرين الأوروبيين.
تأسيسا على ما ذكر آنفا، أيقن المفكر الاستراتيجى، هانز مورجنتاو، أن لا مركزية المجتمع الدولى، تعزز من أدلجة الشرعية الدولية. ذلك أن أكابر الخاضعين لها هم المعنيون بصياغتها، كما يمثلون السلطة العليا لتفسيرها، وتبيان ما تنطوى عليه تشريعاتها من مضامين. لذا، من الطبيعى أن يقوم هؤلاء بتفسير، وتطبيق مبادئ القانون الدولى ونصوص الميثاق الأممى، حسب رؤيتهم المغرضة لمصالحهم المتباينة.