من داخل قاعة كبيرة بأحد فنادق الزمالك خرجت عليها مجموعة من الساسة ورجال الأعمال المعروفين يعلنون تأسيس (التيار المدنى) الذى يمثل طريقا ثالثا ينقذ مصر من (الاستبداد الدينى) و(الاستبداد العسكرى)، وهلل الإعلام لهذا التأسيس، وصار مطلوبا منا الإيمان بهذا التيار المخلص.
وثمة ما يدعونى للتشكك فى وجود أى فرص لهذا التيار، أول ذلك أن مجمل أشخاصه لا يمثلون جديدا فى الساحة السياسية، فبعضهم أعضاء سابقون فى الحزب الوطنى المنحل، أو فى معارضته الرسمية المستأنسة، وبعضهم أسس أحزابا كلها أثبتت فشلا تاما فى التواصل مع الجماهير وفى التعبير عن مشروع سياسى حقيقى، وبعضهم أفشل أحزابا كانت قائمة، وبعضهم من رجال الأعمال شديدى القرب من لجنة السياسات وإن لم يدخلوها.
ثم إن الأفكار التى يدعو إليها هؤلاء ليست جديدة، ولا هى تتخطى إشكالات الواقع السياسى المصرى بل تكرسها، ومن ذلك دعوتهم لتيار (مدنى)، وهو مفهوم شديد الإشكال من جهة أنه يعيد تعريف المدنية باعتبارها موقفا من علاقة الدين بالدولة لا من هيمنة العسكريين على القرارات السياسية، وشديد الغموض من حيث إنه لا يقدم رؤية متماسكة متميزة عن (الثيوقراطية) و(العلمانية) من طبيعة علاقة الدين بالسياسة، وعلى هذا فإنه لا يساهم فى كسر الاستقطاب على أساس الهوية بل يكرسه، بدليل محاولة الجمع بين المتناقضات السياسية (أقصى اليمين وأقصى اليسار فى الرؤى الاقتصادية مثلا) فى قالب واحد لمواجهة الإسلاميين، بدلا من تقديم رؤى مختلفة وبرامج تفصيلية لكيفية التعامل مع المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى تميز الواقع المصرى.
وآلية (إطلاق) التيار الجديد والإعلان عنه تمثل هى الأخرى نذير فشل، إذ أتى الإطلاق نخبويا منفصلا عن الجماهير، بعيدا عن مطالبهم ومشكلاتهم، كما كان الحال مع الأحزاب التى ولدت ميتة خلال السنة الماضية، أو تلك التى ولدت مريضة ولم تدب فيها الحياة، فهى تخرج من نخبة قاهرية منقطعة الصلة بكل ما خارج (المركز)، بل وبكل ما هو خارج النخبة، وحتى تيارات اليسار المشاركة هى أقرب ليسار السلطة الذى استخدم طوال العقود الماضية لشرعنة السلطة من غير اكتراث حقيقى بالجماهير والمستضعفين والفلاحين والعمال الذين يتغنى بهم القادة فى تصريحاتهم وبياناتهم، وهذا الإطلاق النخبوى (الذى يستحيل معه وجود تيار شعبى) ظاهر فى الأسماء المشاركة وفى مكان وطبيعة فاعلية الإطلاق جميعا.
والكفر بهذه المحاولة للخروج من شرنقة المشهد السياسى الحالى لا يعنى التسليم باستمراره، فنتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية تقول بوجود تنوع واسع فى اختيارات المصريين بما يعنى لا تأسيس تيار ثالث فحسب، وإنما إعادة تشكيل الخريطة السياسية بالكامل، ولولا غياب التنظيمات الحاوية للتيارات الجديدة لاستطاع بعضها الوصول لمدى أبعد فى الانتخابات، يعضد فرص تغيير الخريطة فوز محمد مرسى فى الانتخابات الرئاسية، وإعادة تموضع الحركات الإسلامية على أثره، وما يعنيه ذلك من ظهور التنوع فى مواقفها من القضايا المعرفية والسياسية الجادة.
والتيارات الجديدة التى يمكنها أن تحتل موقعا هاما فى الخريطة السياسية الجديدة لا يمكن أن تطلق من (نخبة المركز) لتصل للأطراف، ففى هذا استنساخ لكل التجارب الحزبية الفاشلة فى مصر، وإنما يجب أن تبدأ فى انطلاقها من الجماهير، وأن تسعى لإيجاد صياغات تعبر عن المطالب الاجتماعية والاقتصادية لتلك الجماهير، لا أن تحول الشعب لمفهوم مجرد ــ بتعبير المستشار البشرى ــ وتقوم نيابة عنه بصياغة أحلامه وتطلعاته.
من أجل ذلك فإن التيارات الأقدر على المساهمة فى إعادة تشكيل الخريطة السياسية هى تلك التى تمتلك تواجدا حقيقيا على الأرض، ومنها الحملات الانتخابية لمرشحى الرئاسة، سواء من أكملوا السباق لنهايته أو خرجوا منه انسحابا واستبعادا، فهؤلاء دون غيرهم هم المتصلون بقطاعات واسعة من الجماهير، والقادرون بالتالى على التعبير عن تطلعاتهم، وقد صارت لكل حملة شخصية سياسية تميزها، وإن كانت لم تزل فى حاجة للتطوير، لتصير أكثر تمايزا عن غيرها، وأكثر تعبيرا عن قطاعات من الجماهير بتطوير برامجها ورؤاها.
وتقديرى أن أول واجبات هذه التيارات الجديدة، والتى ستسهم فى نجاحها، هى قدرتها على بلورة مواقف أكثر جدية وتنوعا إزاء القضيتين التى حاول أهل (الطريق الثالث) التعامل معهما إجمالا باستعمال مصطلح المدنية الساعى لتوحيدها جميعا، وهما الموقف من هيمنة المدنيين على مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية، وخطوط التماس بين الدينى والسياسى من حيث المؤسسات والخطاب والمضمون.
وفى القضية الأولى يبدو الموقف المبدئى واضحا، فهو يقضى بسيادة المدنيين على العسكريين، غير أن الشيطان يكمن فى التفاصيل، وكيفية ترتيب العلاقة بما يضمن الكفاءة الفنية للمؤسسة العسكرية مع تمام خضوعها للسيادة الشعبية يحتاج لأكثر من إعلان الموقف المبدئى، وأما القضية الثانية فإن الموقف فيها أكثر تعقدا، إذ لا تبدو رؤية أى فصيل سياسى قائم لهذه المسألة واضحة، ولا تتخطى الرؤى القائمة القشريات والمواقف الشعارية واستعمال المصطلحات الخالية من المضمون، وبالتالى فإن تيارات (الخريطة السياسية الجديدة) لا بد وأن تصوغ مواقف أكثر جدية إزاء هذه القضايا.
والمواقف الجادة إنما تتفرع من تصورات متماسكة لدور الدولة وطبيعة وحدود مسئوليتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهى تصورات متباينة عند مكونات تلك (الخريطة السياسية الجديدة)، وتنعكس على مواقفها من قضايا الانتماء العروبى والإسلامى لمصر، ومن مساحة الاستقلال الحضارى التى تسعى لتحقيقها، ومن أشكال تدخل الدولة لتحقيق العدالة الاجتماعية وحدودها، وأشكال التعامل مع أدوات الإنتاج وموارده ملكية وإدارة وتوزيعا للعوائد، ومساحات الحريات العامة والشخصية، وغيرها من القضايا.
وصياغة المواقف الجادة والمتماسكة إزاء هذه القضايا هو ما عليه تنبنى تيارات الخريطة السياسية الجديدة، أما تدوير واستهلاك المصطلحات (بدءا من التوافق، ومرورا بشعارات الثورة وأهدافها، وبعشرات المصطلحات التى تم تدويرها فى المشهد السياسى خلال الأشهر الماضية، ووصولا لمصطلحى المدنية والطريق الثالث) فإنه لا يغير من الوضع على الأرض شيئا، ولا يخدم الخروج من شرنقة الوضع السياسى الحالى.
لم تفلح الثورة بعد فى تصدير نخبتها المنشغلة بهذه القضايا، إذ لا تزال النخبة السياسية المسيطرة منشغلة بقضايا الماضى، على أن تحرك الواقع بوصول مرشح الإخوان لكرسى الرئاسى يعنى التأسيس لنوع جديد من السياسية لا بد أن ينبنى على مثل هذه الأسس والتمايزات، وإصرار البعض على تكرار أخطاء الماضى فى بناء الفواعل السياسيين سيؤدى لاستبعادهم من المشهد السياسى، ولن تنجح من التيارات السياسية الجديدة إلا ما ينطلق من رؤية فكرية متماسكة تميزه عن غيره، ويعبر حقيقة عن مصالح فئات مجتمعية يتصل بها ولا يعزل نفسه عنها فى قاعات الفنادق.