صحيح أنه أنقذ الاقتصاد العالمى .. لكن هل سيترك وراءه قنبلة موقوتة؟
قال بن برنانكى رئيس بنك الاحتياط الفيدرالى الأمريكى إنه قد لا يبقى فى منصبه لفترة أخرى عندما تنتهى فترته الحالية فى شهر يناير المقبل. وقد عزز قراره عدم حضور المؤتمر السنوى للبنك فى جاكسون هول بولاية وايومنج هذا الصيف الرأى القائل بأنه لن يعود، لكن مازال على التاريخ أن يصدر حكمه على أقوى بنك مركزى فى العالم.
لا شك فى أننا سنتذكر برنانكى على أنه زعيم سياسى جسور ساعد على تجنب حدوث كساد عالمى بقيادته الشجاعة لبنك الاحتياط الفيدرالى واستخدامه سياسات جديدة وعلى قدر كبير من المخاطرة، وهو فى الوقت نفسه يترك لخَلَفه مجموعة من المشكلات غير المسبوقة ولم يتم طرح حلول لها حتى الآن كى يتعامل معها، والتى تتعلق بتهيئة الاقتصاد للعيش بدون مساعدات وتجاوز الاثار المترتبة على الانفاق الضخم بالموازنة.
ومع هذا القدر الكبير من الشك بشأن نجاح أسلوب برنانكى، لا تحمل كتب الاقتصاد الدراسية وأرقام البطالة ربع السنوية ما يكفى من الإجابات عن التداعيات المستقبلية لاسلوب ادارته للاقتصاد الامريكى خلال السنوات المقبلة.
قد ينتهى الحال باعتبار برنانكى واحدا من أشجع رؤساء بنك الاحتياط الأمريكى وأكثرهم إبداعا حتى الآن، لكن التاريخ صنعه مثلما صنع هو التاريخ. فالنظام المالى العالمى أخذ يبدى علامات الضغط العصبى غير المعتاد بعد توليه الرئاسة فى أوائل عام 2006.
وبحلول سبتمبر من عام 2008، عندما أحدث انهيار ليمان برازرز فزعا عالميّا، فهم برنانكى ــ بعد تحليله للمسببات والعواقب التاريخية للكساد العظيم باعتباره أكاديميٍّا، وبعد اتخاذه بعض الإجراء الاستثنائية باعتباره رئيسا لبنك الاحتياط المركزى ــ أهمية استعمال كل أوراقه بسرعة لمواجهة مأساة محتملة هائلة الحجم.
وبعد أن حث بنك الاحتياط الفيدرالى على القيام بدور المسعف المالى الجسور، ذهب إلى الكونجرس مع وزير الخزانة هانك بولسون. وفيما يتذكره كثيرون على أنه اجتماع خارق للعادة، أقنع (أو بالأحرى أرهب) الساسة المترددين باتخاذ خطوات غير مسبوقة شملت ضخ أموال هائلة على نحو طارئ لإنقاذ النظام المالى.
فقد كانت الأمور شديدة الخطورة، كانت من الخطورة بحيث دفعنى قلقى من احتمال ألا تفتح البنوك أبوابها صباح اليوم التالى إلى أن طلبت من زوجتى أن تسحب أكبر قدر ممكن من النقود من الصراف الآلى.
انتُقِد برنانكى كثيرا لاتخاذه تلك الخطوات الشجاعة، لكنه فعل كذلك ما فى وسعه لتعزيز ما أجازه الكونجرس، حيث عمل بشكل وثيق مع وزارة المالية والبنوك المركزية الأخرى فى أنحاء العالم. وكانت النتيجة مجموعة رائعة من الحلول السياسية المنسقة التى أزالت الانسداد فى مسارات النظام المالى العالمى، وجعلت المال ينساب من جديد، وحالت دون حدوث انهيار اقتصادى ذى تكاليف إنسانية رهيبة.
كما أنه انطلق من ممارسة بنك الاحتياط الفيدرالى السابقة بإبلاغ الجمهور بتلك الإجراءات غير العادية، بما فى ذلك إجراء أول مقابلة تليفزيونية لأحد رؤساء بنك الاحتياط الفيدرالى مازال فى منصبه خلال أكثر من عقدين، وذلك فى برنامج «ستون دقيقة».
لا شك فى أنه كان لبرنانكى دور مهم فى توجيه الاقتصاد العالمى إنقاذا له من السقوط فى الهاوية فى عامى 2008 و2009. إلا أن سياساته غير العادية الخاصة بالنشاط السياسى لم تتوقف عند هذا الحد وهنا يكون ميراثه أكثر تعقيدا. فخلال خمس سنوات يمكن أن نعود بالنظر إلى الوراء ونقول إنه اشترى فحسب ما يكفى من الوقت كى تعالج الولايات المتحدة اقتصادها،ـ أو أن يُلقى عليه اللوم بشأن نوبة جديدة من الاضطراب المالى المُفْجِع.
رأى برنانكى أنه بعد تناول جرعة مفرطة من الديون والاستحقاقات الائتمانية، واجهت الاقتصادات الغربية لسنوات عديدة أمورا كانت غير مألوفة وصارت طبيعية وتميزت بالنمو الاقتصادى البطيء، والبطالة المرتفعة على نحو ينذر بالخطر، وتوزيع الدخل الذى يزداد سوءا، والقلق بشأن الموازنات المالية مفرطة الاتساع. وفى الوقت نفسه، أحبط الاختلال الواضح فى واشنطن، بما فى ذلك الكونجرس شديد الاستقطاب، كل محاولات الإصلاح الشامل.
ومرة أخرى بدأ برنانكى الهجوم. فقد تحول من تطبيع الأسواق المالية المحطمة إلى استغلال بنك الاحتياط الفيدرالى لتوفير قدر أعلى من النمو والمزيد من الخلق النشط لفرص العمل وهو تحدٍّ كبير فى ظل الأدوات المحدودة نسبيّا التى تحت يده، وطبيعة سلطته، ومدى الضغينة التى بين الحزبين فى واشنطن.
لقد أجبِر بنك الاحتياط الفيدرالى بالفعل على الدخول فى سلسلة من المناورات الجديدة غير المجربة، بما فى ذلك شراء الأوراق المالية من الأسواق المفتوحة. وكان أمل برنانكى أن توفر تلك الخطوات الاستثنائية وقتا كافيا للساسة وغيرهم من الوكالات الحكومية لتنظيم أنشطتهم كى تتم الأمور بطريقة فعالة. لكن ذلك لم يحدث. ولذلك أعلن فى أغسطس من عام 2010 بمؤتمر جاكسون هول أن بنك الاحتياط الفيدرالى سوف يفعل المزيد.
ففى مواجهة الاقتصاد البطيء والبطالة التى فى حدود 10%، رأى برنانكى أن فتح كل أنواع نوافد تمويل الطوارئ للبنوك فى بنك الاحتياط الفيدرالى غير كاف. وقد جمع بين ثلاث مبادرات سياسية كان محكوما عليها من قبل أنها غير مسئولة، إن لم تكن غير متوقعة بالمرة، وهى جعل أسعار الفائدة السياسية صفرا لفترة طويلة على نحو استثنائى، والتزم بإبقائها كذلك لفترة أطول من خلال ما يُسمى «الإرشاد السياسى الآجل»، واستخدم موازنة بنك الاحتياط الفيدرالى بجرأة لشراء سندات خزانة وقروض رهن عقارى كوسيلة للتحكم فى الأسعار وسلوك المستثمرين.
وفى وقت مبكر من أسلوب إدارة الأزمة الخاص به، وبالصدق والانفتاح اللذين تميزت بهما كل فترة رئاسته المميزة لبنك الاحتياط الفيدرالى، حذر برنانكى من أن الفوائد المحتملة لهذا الموقف السياسى غير التقليدى تحققت بـ«تكاليف ومخاطر». وقد حذر من أنه كلما طالت مثابرة بنك الاحتياط الفيدرالى كان تحقيق التوازن أكثر مشقة وكانت العودة المحتملة إلى الحالة السوية أصعب.
والآن، بعد ثلاث سنوات من التحول عن إنقاد الأسواق المالية المتفجرة من الداخل إلى الاستهداف الصريح للبطالة والنمو الاقتصادى، ليس بنك الاحتياط الفيدرالى أقرب إلى تقليل تجاربه، فلابد للاقتصاد الأمريكى من الوصول إلى سرعة الإفلات والعودة إلى النمو الثابت الذى يمكن التنبؤ به. إذ لا تزال البطالة مرتفعة، وهى 7.5% عند كتابة هذ الكلام، وتلك مشكلة زاد من حدتها ملايين العاطلين الشباب الذين طال أمد بطالتهم، مما يهدد بخلق جيل ضائع جديد.
هذه المشكلات كلها لها عواقب دولية كذلك، وذلك فى ظل إصدار بنك الاحتياط الفيدرالى للدولار، عملة الاحتياطى العالمى، وبالتالى فإن إجراءاته تكون لها أصداء فى أنحاء المعمورة. والواقع أن سياسات برنانكى دفعت البنوك المركزية الأخرى إلى السعى لاتباع مقاربات سياسية أكثر توسعا وتجريبية بغض النظر عن الحاجات الجوهرية لاقتصاداتها المحلية فى بعض الحالات.
يشك البعض فى أن نشاط برنانكى غير العادى أسهم فى سياسة المنعطف اليابانية البارزة التى تمثل بضخها كميات ضخمة من الين فى النظام أكبر تجربة للسياسة الاقتصادية بعد الحرب. كما أثر على السياسة النقدية من البرازيل إلى كوريا الجنوبية، ومن المكسيك إلى تشيلى. وخلق كذلك بضعة أعداء للولايات المتحدة. فقد اتُهِم بنك الاحتياط الفيدرالى فى بعض الدوائر بإذكاء نيران «حرب العملات» المحتملة فى أنحاء العالم. وليس مستغربا أن هذا المزيج من القيادة مفرطة النشاط لكنها تحبط النمو الاقتصادى وزيادة فرص العمل أسفر عن نقاش يتسم بالحيوية.
إنى أعتقد بقوة أن برنانكى أنقذ الاقتصاد العالمى من الكساد فى عامى 2008 و2009، ومع ذلك فإن لدى أسئلة كثيرة بشأن الطريقة التى سنخرج بها بأمان من هذا الوضع.
هل تستحق فوائد سياسات برنانكى غير التقليدية التى لا تزال مراوغة، التكاليف والمخاطر؟ هل ينفخ بنك الاحتياط الفيدرالى فحسب الفقاعات التى سوف تنفجر على الطريق؟ هل هدد برنانكى على نحو غير لائق الموقف العام للمؤسسة والاستقلال السياسى الذى تحتاجه لدعم النمو التضخمى المرتفع؟ متى سيسمح البنك للأسواق بأن تعمل بشكل طبيعى من جديد؟ ما مدى قربنا من حروب العملات الدولية وتهديدات أفْقِر جارَك؟ وماذا لو انتهت هذه التجربة المالية الضخمة بالفشل هل يمكن أن ينتهى الحال ببنك الاحتياط الفيدرالى بعد برنانكى وقد أضحى مؤسسة أضعف بكثير؟
بطبيعة الحال يكمن جزء كبير من الطريقة التى يحدث بها ذلك خارج سيطرة برنانكى أو خليفته إلى حد بعيد، وسوف يعتمد على أفعال الآخرين، من الساسة الذين يتشاجرون حول الأمور التافهة فى الكونجرس إلى رجال البنوك المركزية فى البلدان الأخرى. ولا شك فى برنانكى يستحق قدرا كبيرا من الثناء على مخاطرته الشجاعة.
وسوف يدخل التاريخ باعتباره رئيس بنك الاحتياط الفيدرالى الذى نجح فى توجيه الاقتصاد العالمى بعيدا عن حافة الكارثة. لكن دعونا نأمل أن يُذكر كذلك لبنائه الأساس الذى مكَّن خليفته، بالعمل مع نظام سياسى أكثر قدرة على العمل، للعودة بالولايات المتحدة إلى طريق النمو الاقتصادى المرتفع وخلق فرص العمل النشيط والتضخم المنخفض والمساواة الأكبر فى الثروة. وسوف تكون تلك هى الأمور التى كانت غير مألوفة وصارت طبيعية وقد ندعمها جميعا.