أعلن صندوق النقد الدولى يوم الخميس الماضى 27 أكتوبر توصل المسئولين فيه إلى اتفاق مع الحكومة المصرية يقدم بمقتضاه قرضا لها يبلغ ثلاثة مليارات دولار، وهو مقدار القرض الذى كان قد أعلن عنه فى نهاية شهر أغسطس الماضى. تنفيذ الاتفاق رهن بتصديق مجلس محافظى الصندوق عليه فى شهر ديسمبر المقبل. فى البيان الذى حمل الإعلان، جاء أيضا أن الحكومة المصرية طلبت قرضا بمليار دولار إضافى من صندوق المرونة والاستدامة الذى أنشأه صندوق النقد الدولى أخيرا لتوفير تمويل طويل الأجل بتكلفة معقولة يساعد الدول على خلق مرونة تمكّن من امتصاص الصدمات والتعافى منها، بما فى ذلك الصدمات المترتبة على تغير المناخ. بيان الصندوق أشار أيضا إلى أن المأمول هو أن يكون الاتفاق محفزا لحصول الحكومة المصرية على قروض إضافية يبلغ إجمالها خمسة مليارات دولار من الشركاء الإقليميين ومتعددى الأطراف لمصر خلال السنة المالية 2022ــ2023 «للمساعدة على تعزيز الوضع الخارجى لمصر».
بالتوازى مع إعلان الصندوق، أعلن البنك المركزى المصرى عن تعويم الجنيه المصرى، وكذلك عن ربطه بسلة من عملات الشركاء التجاريين الرئيسيين لمصر، حتى يعكس سعر صرف الجنيه المصرى الطلب الفعلى عليه فى مقابل العرض منه، وهو ما يؤدى إلى الحدّ من نسبة انخفاض قيمته. هذه فكرة يتفق الخبراء على سلامتها غير أنه يبدو أن الوقت لم يسعف البنك المركزى لاتخاذها فكانت نتيجة كل من الإعلانين انخفاض سعر صرف الجنيه المصرى فى نفس يوم الخميس بنسبة 15 فى المائة ليصل إلى 23 جنيها فى مقابل الدولار، وهو انخفاض تعدّى تخفيض الجنيه فى شهر مارس الماضى. للتعامل مع أثر انخفاض قيمة الجنيه على التضخم، وبالتالى على الأسعار، رفع البنك المركزى سعر الفائدة بنسبة 2 فى المائة ليصل إلى 13,25 فى المائة ولا بدَّ أنه حث البنك الأهلى على إصدار شهادات استثمار لفترة ثلاث سنوات بسعر فائدة يبلغ 17,25 فى المائة. هذا باختصار أهم ما فى جانب السياسة النقدية: تعويم الجنيه شرط للصندوق لإقراض الحكومة، وإجراءات البنك المركزى هى لمواجهة آثار التعويم.
الحكومة من جانبها كانت قد فكرت فى خطة تحسبا للاتفاق وآثاره. انعقد المؤتمر الاقتصادى فى بداية الأسبوع وصدّق على السياسات الاقتصادية المتبعة وأصدر عددا من التوصيات الكفيلة بأن تصبح هذه السياسات أكثر نجاحا، ثم أعلنت الحكومة يوم الأربعاء عن حزمةٍ من إجراءات «الحماية الاجتماعية»، من قبيل رفع الحد الأدنى للأجور، وإضافة ثلاثمائة جنيه إلى أجور موظفى وموظفات الحكومة وإلى المعاشات التقاعدية، وتأجيل كل من رفع أسعار الكهرباء والمزيد من تخفيض دعم السلع الغذائية، إجراءات يفهم أنها لمواجهة آثار الاتفاق التى كانت تعرف أنه فى سبيل الإعلان عنه. وحرصت الحكومة على التشديد على أن الحزمة المذكورة «ستكلف الدولة المصرية نحو 67 مليار جنيه». نعلق على حزمة الإجراءات الاجتماعية، وهى من سبيل السياسة المالية، قبل أن نعود إلى السياسة النقدية ثم ننتهى باعتبارات أعمّ.
• • •
يحزّ فى النفس إشارة الحكومة إلى أن حزمة الإجراءات الاجتماعية الموجهة للمواطنين والمواطنات «ستكلف الدولة»، الدولة خليقة المواطنين، الهدف منها تأمين حياة هؤلاء المواطنين وتنظيمها وصياغة السياسات التى من شأنها أن توفر لهم احتياجاتهم وأن يَتَمَتَعوا بإنسانيتهم. فإن لم تستطع الدولة بهذه السياسات غير المباشرة أن تحقق لهم المراد من وجودها، فهى ملزمة بانتهاج نهج مباشر لتوفر لهم ولو جانبا من احتياجاتهم وإنسانيتهم. وعلى أى حال، المليارات السبعة والستون مبلغ متواضع لا يبلغ إلا 3,2 فى المائة من الإنفاق العام فى ميزانية الدولة للسنة المالية 2022ــ2023 والبالغ 2,07 تريليون جنيه. فى أغسطس الماضى، اعتمدت الحكومة ووافق البرلمان فى فرنسا على حزمة شبيهة لمواجهة التضخم الناتج عن ارتفاع الأسعار المترتب بدوره على الحرب فى أوكرانيا، وليس لمعالجة آثار قرض من صندوق النقد الدولى الهدف الأساسى منه تمكين الحكومة من تسديد ما عليها من ديون وأقساط خدمة الدين. الحزمة الفرنسية أطلق عليها اسم «إجراءات مساندة القوة الشرائية»، والمقصود القوة الشرائية لدخول المواطنين والمواطنات، وهى بلغت 44 مليار يورو تمثل 5 فى المائة من الإنفاق العام البالغ 883 مليار يورو فى السنة المالية 2022. قارن 3,2 فى المائة بـ5 فى المائة رغم الفارق فى مستوى المعيشة ومعدل الفقر وحجم السكان بين مصر وفرنسا.
• • •
أما عن السياسة النقدية، فأهدافها ليست واضحة تماما، مع الإقرار بأن البنك المركزى فى وضع لا يحسد عليه. المعلن أن الهدف الرئيسى للسياسة النقدية هو كبح جماح التضخم، ومع ذلك فإن أدواتها متناقضة، إن لم تكن مناقضة لهذا الهدف. معدل التضخم وصل فى شهر سبتمبر إلى 15 فى المائة وتتوقع مجموعة جولدمان ساكس الأمريكية المعروفة أن يبلغ 19 فى المائة فى شهر يناير 2023. بعبارة أخرى، سعر الفائدة أدنى من معدل التضخم وبالتالى فهو فعليا سلبى رغم ارتفاعه الاسمى بنسبة 2 فى المائة. المحصلة أن العرض من النقود لن ينكمش والضغوط التضخمية لن تتراجع. تخفيض سعر صرف الجنيه يؤدى بدوره إلى زيادة الضغوط التضخمية. كبح جماح التضخم سيكون صعبا بهذا الشكل. من جانب آخر، تخفيض سعر صرف الجنيه هو ما طالبت به دوائر الأعمال المصرية منذ سنوات باعتبار أنه سيحفز الطلب الخارجى على إنتاج مصر من السلع والخدمات، وبذلك يعطى دفعة للإنتاج فيفتح المصانع المغلقة ويشغل العمال فيها، علاوة على تلبية الطلب الداخلى بالإحلال محل الواردات، ويجتذب السياح، ويتحرك بذلك النشاط الاقتصادى. هكذا تسهم أدواتها ضمنيا فى تحقيق ولو جانب من هدف رئيسى للسياسة النقدية فى الولايات المتحدة مثلا، ألا وهو تحقيق التشغيل الكامل. سعر الفائدة السلبى فى مصلحة الحكومة أيضا لأنه يخفّض القيمة الفعلية للدين الداخلى ولأقساط خدمته، وإن كان فيه خسارة يمكن أن تكون فادحة لجمهور المدخرين. نمسك عن مناقشة مسألة حساب المنافع المترتبة على تخفيض قيمة الجنيه، فى مقابل ارتفاع تكاليف الواردات، بما فيها مدخلات الإنتاج، التى تستوردها مصر. ارتفاع تكاليف الواردات يمكن أن يؤدى بدوره إلى مزيد من ارتفاع الأسعار.
البيان الصادر عن صندوق النقد الدولى فيه كلام لا بأس به عن إطلاق طاقة القطاع الخاص على تحقيق النمو بتخفيض وجود الدولة فى النشاط الاقتصادى وباعتماد «إطار قوى للمنافسة» وتعزيز الشفافية. أما البيان الصادر عن المكتب الإعلامى لرئيس مجلس الوزراء فكان مقتضبا فى شأن الإصلاحات الهيكلية، فى مقابل إسهابه فيما يتعلق بحزمة الحماية الاجتماعية لأسباب سياسية غير خافية. هو اكتفى فى هذا الصدد بالإشارة بشكل عمومى إلى اتخاذ تدابير لدعم تنافسية الاقتصاد المصرى وتحسين بيئة الأعمال واعتماد وثيقة ملكية الدولة وجذب الاستثمارات المحلية والدولية. قبل ذلك كانت توصيات المؤتمر الاقتصادى قد نصّت على تخارج الدولة من ملكية الأنشطة الاقتصادية، وعلى تحديد مدد للموافقة على طلبات الاستثمار، لاحظ طلبات وليس عروض الاستثمار، وعلى ردّ أعباء التصدير، وعلى تصدير العقارات، بمعنى بيعها لمشترين أجانب بالعملات الصعبة، فضلا عن دعوة القطاع الخاص للاشتراك فى توفير الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة.
• • •
سواء ما ورد فى البيان الحكومى أو توصيات المؤتمر يتصف بالعمومية، والأمل هو أن يتسم التنفيذ على الآماد القصيرة والمتوسطة والطويلة بالدقة وبتحديد الموارد العامة المخصصة لتطبيق الإجراءات المختلفة. اضطلاع القطاع الخاص بالنشاط الاقتصادى، وهو الأصل، لا يعنى خروج الدولة وغيابها عن الاقتصاد. للدولة وظائفها ليس فقط فى تنظيم الاقتصاد وضبطه ومنع الاحتكار وإنفاذ القانون والاكتفاء بالسياسة النقدية، وهو ما ثبت قصوره فى الدول المتقدمة والنامية معا، وإنما كذلك فى تنشيط الاقتصاد عبر السياسة المالية لمساندة نفس القطاع الخاص، ثم لضمان التوازن بين ضرورات النمو الاقتصادى والاعتبارات الاجتماعية اللازمة من أجل تحقيق التماسك المجتمعى، اتقاء لمخاطر التباين الشديد فى الدخل والثروة والتعليم والثقافة ومستويات المعيشة، وللتدخل إن فشل القطاع الخاص أو عجز عن تحقيق النمو فى أنشطته وتلبية طلب المواطنين كمستهلكين. التعليم مذكور هنا لأنه ليس فقط اعتبارا اجتماعيا وإنما هو عنصر حاسم فى تكوين العامل الأول من عوامل الإنتاج، ألا وهو العمل. بدون قوة عمل متعلمة ومدربة لن ترتفع الإنتاجية الكلية للاقتصاد والقيمة المضافة التى يحققها وهو ارتفاع ضرورى لرفع مستوى المعيشة والقضاء التدريجى على الفقر، ولتحقيق القدرة الحقيقية على خدمة كل من الدين الداخلى والخارجى، على أمل الكف عن الاقتراض إلا لأغراض بناء الطاقة الإنتاجية المعتد بها داخليا وخارجيا. مثل التعليم المطلوب ليس فى طاقة القطاع الخاص. هو لا يقدر عليه إلا الدولة وهى لذلك ملزمة بتخصيص الموارد الضرورية له. هذا التعليم ليس خيارا بل هو ضرورة لا يمكن قبول أى تعليل للتهرب منها.
إعادة هيكلة الاقتصاد واتخاذ السياسات اللازمة، الذى تأخر كثيرا، لن يؤتيا نتائج ملموسة فى الأجل القصير، ولذلك فالتساؤل يثور عن سبيل تسديد أقساط خدمة الدين الخارجى فى السنتين القادمتين والتى تذهب تقديرات إلى أنها تصل إلى 17 مليار دولار فى سنة 2023 و24 مليار دولار فى سنة 2024. هذا تحدٍ هائل ينتظر السلطات ولكنه لا يعفى، بل هو يتطلب البدء بأسرع ما يمكن فى اتخاذ السياسات المحددة اللازمة. هذه السياسات وحدها هى التى يمكن أن تبرر الإجراءات الاقتصادية الصعبة والاقتراض من جديد.