فى هوس العنف شهادة انتحار سياسى لأية جماعة وأى تيار، فالعنف لا يؤسس لديمقراطية ولا لدولة حديثة ولا لأية قيمة إنسانية.
لا أحد بوسعه أن يقنع الآخرين بمظلوميته وهو يتوعدهم بالسلاح ولا بقضيته وهو يخلط بين أحاديث السلمية والعبوات الناسفة.
وفى طلب الحقيقة شهادة لقدرة المجتمع على مواجهة الإرهاب وبناء المستقبل فى الوقت نفسه.
بين الشهادتين يتقرر المصير المصرى، فالعنف يفقد أثره السياسى بمدى القدرة على مواجهة الحقيقة.
هناك فارق جوهرى بين وظيفة الحملات الإعلامية وطبيعة لجان تقصى الحقائق، فالأولى تعبئ المشاعر العامة لما تعتقده من أهداف سياسية، بينما الثانية تطلب أن نعرف ماذا جرى بالضبط.. أين كانت الثغرات الكبرى.. وفيم كانت الأخطاء فادحة.. ومن يتحمل المسئولية.. وما الذى يتوجب علينا أن نفعله حتى لا تتسع الثغرات وتتكرر الأخطاء؟
القضية ليست أن نمنح طرفا شهادة بالرضا التام وندمغ الآخر بالإدانة المطلقة، فمثل هذا النوع من التفكير أقرب إلى الدعايات الإعلامية لا إلى لجان تقصى الحقائق.
فى البحث عن الحقيقة تكتسب مثل هذه اللجان صدقيتها من موضوعيتها فى استيفاء الوقائع وتوثيقها بأكبر قدر ممكن من المهنية قبل إصدار أحكامها وتوصياتها.
فى الموضوعية عاصم من اتهامات التسييس وفى المهنية اقتراب من الحقيقة بلا انحياز لرواية دون أخرى وطرف على حساب آخر.
كان هذا هو التحدى الجوهرى الذى اعترض تقرير لجنة تقصى حقائق (٣٠) يونيو برئاسة القاضى الدولى الدكتور «فؤاد عبدالمنعم رياض» عن فض اعتصام «رابعة».
معضلة أى تقرير يقترب من هذا الملف الحساس أنه مطعون عليه قبل أن يبدأ، فهو يرمز لمظلومية تتبناها الجماعة وهو قضية دولة هيبتها على المحك.
الانحياز فى رواية الوقائع يفقد أى تقرير قيمته فى استجلاء الحقيقة.
بتلخيص ما فإن التقرير حاول بقدر ما توافر لديه من أدلة وقرائن أن يقترب من الحقيقة وأن يحسم أكثر الأسئلة حساسية ومدعاة للتجاذبات السياسية والإعلامية.
حمل الجماعة والشرطة المسئولية المشتركة عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا أثناء فض الاعتصام.
غير أن الاستنتاج العام لا يساوى بين الأطراف المختلفة فى مستوى تحمل المسئولية.
أول الأسئلة: «من بدأ بإطلاق النيران».. قوات الشرطة التى فضت اعتصام «رابعة» أم المعتصمون داخل الميدان؟
فى تقرير آخر عن أحداث فض اعتصام «رابعة» أصدره المجلس القومى لحقوق الإنسان تأكيد على أن الرصاصة الأولى أطلقها معتصمون مسلحون وأن أول الضحايا ضابط شرطة، وهو ما أعاد تأكيده التقرير الجديد.. بينما تبنت على نطاقا واسع التقارير الحقوقية والإعلامية الدولية، الرواية الأخرى فى تحميل الشرطة المصرية مسئولية المجزرة دون أن تجيب عن سؤال الرصاصة الأولى رغم محوريته فى فهم سياق الأحداث.
فى تقرير لتقصى الحقائق عن الوقائع ذاتها تبنته «هيومان رايتس ووتش» حذفت شهادة لمراسل سابق فى الـ«نيوزويك» الأمريكية تروى قصة الرصاصة الأولى بتفاصيل مقاربة، وكان ذلك عملا سياسيا لا حقوقيا، فالإقرار بصحة الشهادة ينزع عن الاعتصام سلميته ويفضى إلى استنتاجات أساسية لا يمكن قبولها بأية معايير حقوقية وإنسانية فى مصر أو فى أى مكان آخر بالعالم.
كانت تلك فضيحة للمنظمة الحقوقية الدولية نالت من صدقيتها فاضطرت للاعتذار دون تعديل موقفها من «رابعة» وما جرى فيها.
ومن الاستنتاجات التى تبناها تقرير لجنة تقصى حقائق (٣٠) يونيو أن الاعتصام بدأ سلميا قبل أن يتحول إلى بؤرة عنف.
فمن يتحمل إذن مسئولية تفاقم الخطر؟
ولماذا تأخر الحسم حتى أصبحت الكلفة السياسية والإنسانية باهظة؟
بحسب التقرير فإن حكومة الدكتور «حازم الببلاوى» تتحمل مسئولية عدم الحسم بما سمح للاعتصام أن يتمدد عددا ومساحة وأن تتدفق إليه معدات وأسلحة.
الاستنتاج صحيح من حيث أن عدم الحسم لوقت طويل نسبيا فى فض الاعتصام أفضى إلى زيادة أعداد الضحايا لكنه يفتقد دقته فى تحميل المسئولية للحكومة وحدها.
لم تكن هى صاحبة القرار الأخير ولا لها الكلمة الفصل فى مثل هذا الملف بالغ الحساسية والخطورة.
كان هناك رجلان فى مقدمة المشهد، أولهما المستشار «عدلى منصور» رئيس الجمهورية المؤقت، وقد حاول بقدر ما يستطيع أن يوازن بين الاعتبارات السياسية والأمنية المتضاربة فى اجتماعات مجلس الدفاع الوطنى.. والثانى الدكتور «محمد البرادعى» نائب رئيس الجمهورية للعلاقات الدولية وقد حاول بقدر جهده أن يوقف فض الاعتصام لأطول فترة ممكنة فربما تسفر التدخلات الدبلوماسية الدولية عن حل سياسى، ومن حيث طلب إنهاء الاعتصام سلميا حقنا للدماء فإن عدم الحسم مبكرا أفضى إلى ما جرى من مآسٍ.
فى تلك الأوقات كان قائد الجيش «عبدالفتاح السيسى» فى وضع حرج للغاية، فقد نقلت السلطة إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا ونائبه حائز على جائزة نوبل للسلام، وأى تدخل مباشر فى صناعة القرار يضفى على ما جرى فى (٣) يوليو صفة الانقلاب العسكرى.
التزم بما هو أمنى وابتعد عما هو سياسى.
اقترب من رؤية «البرادعى» فى إفساح المجال لمبادرات المصالحة غير أنها اصطدمت بجدار مصمت وأفضت بالوقت إلى الإرباك السياسى والتدخل الدولى معا.
فى النهاية فإن الرجل الذى تحمل مسئولية قرار الفض هو رئيس الجمهورية المؤقت، وكان قراره يوافق ما استقرت عليه مؤسسات القوة بينما انسحب رجل آخر مستقيلا وغادر المشهد السياسى كله بعد أن كان يمسك بيديه فى الأيام الأولى ليونيو بمقاليد السلطة الفعلية، شكل الحكومة ورتب الأوضاع الجديدة لكنه افتقد بفداحة أية كفاءة سياسية، وكانت هذه مأساة بذاتها فى لحظة حرجة.
المعنى فى ذلك كله أن المعلومات أمام لجنة تقصى الحقائق لم تكن كاملة، فمن مقتضيات النهوض بمسئوليتها أن تتطلع على كل الأوراق وتنظر فى كل المستندات بلا أية قيود أو حواجز أيا كانت أسبابها وحساسيتها.
بمعنى أوضح فللتقرير أهميته فى الاقتراب من الحقيقة غير أن الحقيقة كلها مازالت تحتاج إلى إضافات جوهرية تدخل فى سياق العدالة الانتقالية، وهذه مسألة ليست متاحة الآن، فلا عدالة انتقالية ممكنة والحرب مع الإرهاب دائرة.
وفى السعى إلى الحقيقة يعاود سؤال الأمن طرح نفسه:
لماذا ارتفعت أعداد الضحايا بصورة تفتقد التناسبية بين مستويات الخطر واستخدام السلاح؟
بحسب التقرير فإن هناك قصورا أمنيا فى مستويات الكفاءة يستدعى إعادة تأهيل للجهاز الأمنى.. وهذه مسألة حاسمة فى حرب قد تطول مع الإرهاب