تناقضت التحليلات فى الداخل التركى بالنسبة لمستقبل العلاقات مع مصر، إلا أن الكثير من المحللين ينادون بأن السياسة الخارجية التركية كانت دائما ما تحافظ على براجماتيتها للحفاظ على علاقات متوازنة بين الشرق والغرب، واضعة فى الاعتبار أن المصالح وتوازن القوى هى المحاور الأساسية التى يجب أن تقوم عليها السياسة الخارجية لأى دولة، لا سيما تركيا ــ التى يفرض عليها موقعها كدولة تشغل موقعا مهما فى الشرق الأوسط الملىء بالتناقضات والأزمات وتسعى فى الوقت ذاته للدخول للاتحاد الأوروبى ــ أن تدير سياسة خارجية برجماتية من الدرجة الأولى.
وعلى الرغم من التجارب السيئة المتكررة فى سياستها الخارجية تجاه العرب لاتزال تركيا مصرة على لعب دور الوصى على بلدان المنطقة لتحاول إملاء الصواب والخطأ، مما يقابله ردود فعل عنيفة أحيانا. ربما كان هذا الدور فى البداية حقا منحته الولايات المتحدة لتركيا بعد الثورة الإيرانية، وتحولها لدولة إسلامية معادية للولايات المتحدة، لتكون تركيا حليفتها ويدها فى المنطقة التى تحرك بها مجريات الأمور للحفاظ على مصالحها. بيد أن الأمور بدأت فى التغيير بعد أن تحولت تركيا عن دورها كراعى لدور الغرب فى المنطقة، لتحاول الدفاع عن مصالحها الوطنية فى المقام الأول متجاهلة مصالح حلفائها الغربيين.
العلاقات التركية ــ العربية
الحقيقة أن الوضع الراهن فى العلاقات بين تركيا ومصر ليس بالأمر الجديد فى تاريخ العلاقات بين البلدين. فقد حاولت تركيا من قبل لعب دور الأخ الأكبر والوصى فى المنطقة من خلال سياسة الترغيب والترهيب للدفاع عن مصالحها الوطنية. فبشكل عام يمكن القول بأن سياسة تركيا تجاه الوطن العربى ومصر تحديدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مرت بثلاث مراحل رئيسية. المرحلة الأولى كانت فى خمسينيات القرن الماضى، حينما كانت تركيا تسعى لمحو ملامحها الشرقية والتخلص تماما بكل ما يربطها مع الإسلام، والتوجه بكل قوة نحو الغرب. حتى أن المحللين والمؤرخين الأتراك يصفون تركيا فى تلك الفترة بأنها كانت تنتهج سياسة غربية أكثر من الغرب نفسه.
المرحلة الثانية كانت فى الستينيات والسبعينيات، وتحديدا بداية من أزمة قبرص 1963 وانتهاءا بأزمة البترول 1973. حيث كانت قبرص بمثابة نقطة تحول جذرية فى السياسة الخارجية التركية تجاه الشرق والغرب معا، حين وجدت تركيا نفسها وحيدة أمام الغرب بعد أن قطعت علاقاتها مع الدول العربية، فتوجهت لإعادة رسم سياستها الخارجية لتكون أكثر توازنا ومرونة. ورغم أنها حاولت التقرب من العرب من خلال مواقفها الداعمة لهم فى حروبهم مع اسرائيل إلا أنها لم تنجح فى إدارة سياسة فعالة معهم فى تلك الفترة، وذلك بسبب المشاكل والأزمات التى كانت تعصف بالداخل التركى.
سياسات تركيا هذه نجحت فى أن تمهد الطريق للمرحلة الثالثة (وهى مرحلة ما بعد 1973). حيث لعبت أزمة البترول دورا محوريا فى ترسيخ أهمية تعزيز العلاقات التركية مع الشرق الأوسط. حيث كان البترول بلا شك السبب الرئيسى وراء دفع تركيا لتحسين علاقاتها مع الدول العربية، خصوصا بعد ارتفاع أسعاره، ووصول فاتورة واردات البترول من الخارج لعدة مليارات بعد أن كانت لا تتجاوز 300 مليون دولار عام 1972. وهو ما جعل تركيا تعجز عن تسديد التزاماتها النقدية، مما تسبب فى زيادة قيمة العجز فى الميزانية للعام 1977 بشكل كبير، وهو ما أجبر صناع القرار فى أنقرة على إعادة النظر فى سياساتهم تجاه العرب، وتضعها فى مرتبة عليا على قائمة أجندة السياسة الخارجية.
تركيا والعرب بعد الربيع العربى
بعد اندلاع ثورات الربيع العربى، يمكن القول بأن هناك عدة عوامل شجعت تركيا على الإسراع لمحاولة فرض سياستها كأخ أكبر فى المنطقة، والاستفادة من الاهتزازات الإقليمية التى تسببت فى إحداث تغييرات فى التوازن الاقليمى والدولى. منها ظهور تركيا كقوى اقليمية كبيرة، نتيجة الاستقرار النسبى والأمن والقوة الاقتصادية التى تنعم بها، مقارنة بالقوى الإقليمية الأخرى فى المنطقة كإيران ومصر التى تعانيان من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية حادة. ثانيا، اهتزاز مكانة ونفوذ الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة والغرب، وما صاحبه ذلك من تعميق لصورة الولايات المتحدة كالشيطان الأكبر أمام شعوب الشرق الأوسط الرافضة للنفوذ الغربية فى بلدانهم، ثالثا، وصول الإخوان المسلمين للحكم فى مصر وقبولهم للوصاية التركية فى المنطقة بصدر رحب. كل هذا تسبب فى إحداث فراغا حاولت تركيا أن تملأه سريعا، وأن تستفيد منه، متجاهلة مصالح الغرب والدول العربية ذاتها، مما أثار حنقهم لشعورهم بتهديد تركيا لهم، خصوصا دول الخليج العربية، بعدما أصبحت قوة لا يمكن تجاهلها.
لا يمكن إنكار أو تجاهل حقيقة أن القوى الغربية خاصة الولايات المتحدة، التى رأت أن عليها الإسراع فى ملء الفراغ الذى أحدثته اهتزازات الربيع العربى واستعادة دورها فى المنطقة، كانت وراء تدخل الجيش ضد حكم جماعة الإخوان، الحليفة لتركيا، بعد أقل من عام واحد من وصولها للسلطة. والمثير للشكوك أيضا تلك المظاهرات التى اندلعت فى تركيا لزلزلة النظام التركى وإسقاط حكومة العدالة والتنمية ضمن قضايا الفساد التى فجرت الخلافات فى الداخل التركى، إلا أن تلك المظاهرات وقضايا الفساد، رغم قوتها ونجاحها فى تعميق الاستقطاب فى الداخل التركى مما يجعل اندلاعها مرة أخرى احتمالا واردا فى أى وقت، لم تنجح فى إثناء الحزب الحاكم عن سياسته التى مازال مصرا على انتهاجها على الرغم من تحول الربيع العربى لشتاء قارص يعصف بكل ثماره.
تركيا ومصر بعد 30 يونيو
لا شك أن الموقف التركى الصارم تجاه مصر بعد أحداث 30 يونيو، كان له الكثير من مؤيديه فى الأوساط التركية فى البداية، سواء من قبل الحزب الحاكم أو المعارضة، وذلك لما للأتراك من تجارب سيئة مع الانقلابات فى تركيا، والتى كانت تتطال الجميع بلا استثناء. إلا أن الأمر بدأ يتغير مع الوقت، خصوصا بعد أن بدأت تركيا فى الشعور بالوحدة بين دول المنطقة مرة أخرى.
فى البداية خرج البعض ليصرح بأن وضع تركيا فى المنطقة يمكن وصفه بـ«الوحدة القيـّمة» Deerli "Yalnızlık فى محاولة للتبرير للموقف التركى ودعمه أمام الرأى العام. إلا أن الكثير من المحللين السياسين الأتراك بدأوا فى مراجعة مواقفهم تجاه رفض الحكومة الصارم فى التعامل مع مصر بقيادة السيسى. حتى أن الأصوات التى كانت منذ عهد قريب تساند الموقف التركى بدأت فى التصريح أنه ربما كانت السياسة التركية تجاه مصر السيسى موفقة وصائبة من الناحية الأخلاقية، إلا أنه منذ متى كانت السياسة الخارجية تهتم بالقيم الإخلاقية؟! ويضيفون أن السياسة الخارجية ما هى إلا المترجم لمنافع الدولة ومصالحها مع الدول الأخرى، وأن المواقف الأخلاقية طويلة المدى سرعان ما تنلقب على مصالح الدولة نفسها.
•••
العقلاء فى أنقرة ينصحون بأن تركيا عليها أن تقوم بوضع جدول زمنى لاحتواء الأزمة بينها وبين مصر، والتخلى عن سياسات مثالية مثل «لا تضع يدك بأيدى الأشخاص السيئين». وأنه فى الفترة الراهنة يجب على انقرة التوقف عن التعامل مع مصر بصورة مانوية، تنحصر بين الإخوان المسلمين والسيسى، وأن تعمل على فتح قنوات أخرى فى الداخل المصرى لإعادة المياه لمجاريها واستعادة العلاقات الثنائية بين البلدين، والعودة لسياسة تركيا التى نجحت فى جعلها قوة أقليمية لا يستهان بها، طالما كانت أولولياتها قائمة على المصالح الاقتصادية والبراجماتية، وبعيدة كل البعد عن أى مقاربات أيدلوجية أو عاطفية.