عندما يتصاعد منسوب المعرفة السياسية، الأمر الذى كانت قد جرت منذ فترة الإشارة إلى حدوثه عند عموم المصريين فى مقالات سابقة، فإن حركية المعرفة السياسية تتزايد.
وباعتبار أن الظروف والمتغيرات المتعلقة بكليهما (منسوب المعرفة وحركيتها) تؤثر فى الآخر، وأن التأثيرات الناجمة قد تصل فى انعكاساتها المجتمعية إلى خليط من التعقيدات والشواش (أو الفوضى)، حتى إن الاحتمالات الإيجابية والسلبية للمخرجات يمكن أن تتباين بقدر يصعب استشرافه، فإن الحاجة للتعرف على التضاريس الخاصة بحركية المعرفة السياسية تكون قصوى.
من هذا المنظور يسعى الطرح الحالى إلى تناول أبعاد العلاقة بين منسوب المعرفة وحركيتها.
***
بينما يمكن الإشارة إلى المعرفة باعتبارها الفهم النظرى والعملى لموضوع ما أو هى جملة الحقائق و/ أو المعلومات و/ أو القدرات و/ أو الانتباهات التى يمكن أن تُكتسب من خلال الممارسة والخبرة أو عن طريق التعليم والتأهيل، فإن للمعرفة ذاتها طاقة تؤدى بمالكها كفرد أو ككيان (جماعة أو مؤسسة أو أمة... إلخ) إلى القدرة على الإنجاز.
قد يتمثل الإنجاز فى صياغة لرؤية (أو سياسة) أو اقتراح لبدائل أو تصميم لمخطط أو برنامج أو ممارسة للتواصل والتشارك مع الآخر... إلخ.
تحقيق الإنجازات أو المساهمة فيها أيا كان نوعها يعنى صناعة مخرجات (وعائدات).
التحول بمعنى الانتقال أو التحرك من مجرد المعرفة بالشيء إلى تحقيق الإنجازات يحدث من خلال ما تحمله (أو تُنشئه) هذه المعرفة عند صاحبها من عزم.
وهكذا للمعرفة حركية. من أرقى أنواع حركية المعرفة تأتى الحركية السياسية والتى تختص بالشأن العام من حيث أهدافه وآلياته وعملياته وتبايناته وعلاقاته ومساراته ومخرجاته.
من هنا فإن تصاعد منسوب المعرفة السياسية عند عموم المصريين والمتمثلة فى ارتقاء حميتهم بشأن الفهم لما جرى ويجرى وما يمكن أن يجرى بشأن السياسات العامة وأوضاعها إنما يعنى التغيير فى احتمالات وممكنات حركية المعرفة.
التغيير قد يكون إيجابيا أو سلبيا بدرجات نسبية مقارنة بالأوضاع الأسبق.
فى هذا الشأن يمكن القول مثلا بأنه مع الارتقاء فى منسوب المعرفة السياسية لدى عموم المواطنين يكون من المتوقع أن تتجه مؤسسات ومكونات الدولة المعنية إلى زيادة قدراتها على الاستشراف (والترتيب والسماح والرعاية) لمزيد من التطويرات الكمية والنوعية للحركيات السياسية، الأمر الذى قد يؤدى إلى التوافق السياسى ومن ثم تسارع التقدم والازدهار للدولة ككل. تماما كما يؤدى منعه أو تحاشيه إلى انفجارات (نفسية/ اجتماعية/ سياسية)، وبالتالى تصاعد للمتناقضات فى المسار السياسى العام للكيان أو للدولة ومن ثم تصاعد للمتناقضات والشواش فى بقية المسارات.
إضافة إلى ذلك يمكن القول بوجود عائد ارتدادى (أى Feedback) ما بين منسوب المعرفة وحركيتها.
هذا العائد الارتدادى لا يتعلق فقط بتصاعد حركية المعرفة مع تصاعد المنسوب أو بتجريفها مع انخفاضه (والعكس) وإنما يتعلق ــ أساسا ــ باتجاه المعرفة. هل هو اتجاه إيجابى (أى لصالح المجتمع) أم اتجاه معاكس يخدم مصالح خاصة أو مؤقتة أو مضادة للمصالح العامة الأطول مدى.
هنا يستحق الأمر الانتباه لشدة تأذى العائد المجتمعى العام من جراء عمليات تزييف المعرفة أو تزيين المعرفة المضادة (والتى قد تأتى من خلال الاستهتار المعرفى أو الجهل أو سوء القصد أو الأنانية).
من النماذج التاريخية فى هذا الصدد ما كان قد أقدم عليه الرئيس السادات بدعم وتقوية الجماعات الإسلامية بغرض ضرب القوى السياسية التى على يسار نظامه.
بهذا التوجه قام السادات بخلق معرفة مشوهة، وعليه فقد أدت المعرفة الملتبسة وغير الصالحة التى غرسها كرئيس للجمهورية إلى إدخال الاهتزاز على عقيدة أجهزة الأمن الوطنى والتى كانت قد بُنيت ركائزها على اعتبار قوى التسييس الدينى مضادة للصالح المجتمعى العام.
ولأن عمليات تزييف المعرفة أو دعم المعرفة التى تتضاد مع المصالح المجتمعية تكون لحركياتها سلاسل من المخرجات والتداعيات متناهية السلبية، فإن ما كان قد أقدم عليه الرئيس الراحل لم يأت بالضرر فقط على شباب المجتمع وقواه وتوازناته السياسية وإنما قد أدى إلى اغتياله هو نفسه بينما كان فى أبهى حالات الاطمئنان أثناء الاحتفال بذكرى النصر.
هذا فضلا عما قد أصاب المجتمع ككل من تعقيدات إضافة إلى ما تبع من تدهورات وانحرافات فى منسوب المعرفة عند عموم المصريين.
***
فى سياق مشابه بخصوص تعطيل المعرفة تأتى التوجهات التى كان قد اتخذها النظام السياسى المصرى فى أعقاب يوليو 1952 باحتكار فرص العمل السياسى لتكون بواسطة تنظيم أوحد، الأمر الذى ثبت فيما بعد أن الرئيس عبدالناصر قد تراجع عنه ــ فكريا ــ قبل رحيله بقليل عندما توصل إلى اعتبار تعدد القوى والأحزاب السياسية لازمة أساسية للتقدم حيث فى تعطيل حركيات المعرفة السياسية تعويق للاستنهاض الوطنى.
وهكذا يمكن ملاحظة أن محتوى النموذجين المطروحين عن الزعيمين الراحلين كان إلى حد كبير فردى الصنعة من حيث الخروج عن المعايير المعرفية سواء فيما يتعلق بالتسييس الدينى أو بحجب فرص تداول السلطة.
الآن، وقد اختلف الزمن حيث يتصاعد منسوب المعرفة وترتقى حركياتها من خلال تشبيكات وتعقيدات تتفوق فى تأثيراتها على التوجهات الفردية، فإن أهمية الانتباه إلى خصائص وآليات حركية المعرفة والعوامل المؤثرة فيها تتعاظم مما يحتاج إلى تناولات تفصيلية.
أستاذ جامعى