عندما سيتابع المؤرخون وعلماء السياسة والاجتماع الانتفاضات التى حدثت مؤخرا فى عدد من البلدان العربية وفى قلبها مصر سوف يدركون أن القوى المحركة لها كانت هى قوة الشباب، وانه لفهم هذه الانتفاضات التى تحول بعضها، كما حدث فى مصر إلى ثورة التفت حولها كل قطاعات الشعب، لابد من فهم أوضاع ودوافع الجيل الحالى من الشباب المصرى والعربى وما شكل وعيهم وما يواجههم من معضلات حياتية، وقضايا مجتمعاتهم التى تدور حول الديمقراطية والتغيير ومحاربة الفساد والتى كانت أيضا من عوامل تشكيل هذا الوعى. وحتى قبل اندلاع هذه الانتفاضات الشبابية، كان المحللون وعلماء الاجتماع يناقشون مشكلات الشباب العربى المعاصر، ويصفونه بأنه «جيل ينتظر» «Generation in Waiting» وتخلص دراساتهم ومناقشاتهم إلى إن هناك فى الشرق الأوسط أكثر من 100 مليون شاب ينتظرون الوعود التى لم تتحقق حول الحصول على وظيفة، ومسكن، والاستقلال المالى. ووسط هذا تبلغ معدلات البطالة فى الشرق الأوسط 11% وحيث يعانى الشباب أسوأ الأوضاع فى سوق العمل، ومن بين هذه النسبة من البطالة تبلغ نسبه الشباب 20 ــ 25 % وحيث ينتظر معظمهم عامين أو ثلاثة فى انتظار الوظيفة، وقد أدت ظروف سوق العمل إلى تأخر فى الزواج وصعوبات فى الحصول على مسكن.
غير أن جيل الشباب فى مصر والمجتمعات العربية إنما يعيش ويتفاعل مع طبقة اجتماعية أوسع وهى الطبقة المتوسطة والتى هى دائما العمود الفقرى الذى يعتمد عليه المجتمع فى حركه تقدمه، هذه الطبقة تعيش منذ عقود تحت ضغوط متزايدة اقتصادية واجتماعية فقد أصبحت إمكاناتها الاقتصادية أقل كثيرا من احتياجاتها الأساسية وارتفاع مستويات التضخم وغلاء الأسعار، وضعف إمكانات تعليم أبنائها وتدنى مستويات هذا التعليم، والافتقار إلى رعاية صحية مناسبة، وفى هذا الوقت الذى عانت فيه الطبقة المتوسطة من هذه الضغوط ارتفعت ثروات طبقه صغيرة ترسخ نفوذها بتحالفها مع السلطة الحاكمة وأساليب الفساد والتحايل على القانون، وهكذا تزايدت الهوة بين الفقراء والأغنياء بشكل بات يهدد السلام الاجتماعى.
أما الأطار السياسى الذى يعيش ويتفاعل معه الشباب فهو طبيعة النظم السياسية العربية حيث تتسم فى معظمها بالأوتوقراطية وغياب المشاركة السياسية والقهر الذى تمارسه مؤسساتها وأجهزتها الأمنية فى التضييق على الشباب إلى حد استخدام التعذيب وامتهان الكرامة.
وإذا كانت هذه الظروف المجتمعية هى التى شكلت وعى أجيال الشباب فى مصر والمجتمعات العربية فإن هذا الوعى قد تشكل كذلك بفعل قضايا السياسة الخارجية وفى القلب منها القضية الفلسطينية وما يراه الشباب من غطرسة القوه الإسرائيلية ورؤية شعب كامل يرزح لعقود طويلة تحت الاحتلال الاسرائيلى وتعرضه للامتهان اليومى من قوات الاحتلال، فى مقابل الضعف العربى الواضح فى التعامل مع هذه الغطرسة والعربدة الإسرائيلية فى المنطقة. ولعل العدوان الإسرائيلى على لبنان فى صيف 2006 ثم حربه وحصاره لغزة عام 2009، ومشاهدة هذا العدوان اليومى المدمر كانت من أكثر العوامل تأثيرا وصياغة لوعى الشباب وغضبه. وفى عرضنا للسياقات التى عملت وتأثرت بها ثورة الشباب، لا نستطيع أن نغفل أن الجيل الحالى من الشباب كان الأكثر تأثرا واستخداما لثورة المعلومات والاتصالات الأمر الذى مكنه من أن يتواصل مع العالم ومع مجتمعه فضلا عن انتشار المحطات الفضائية التى أنهت احتكار النظم لوسائل الإعلام.
غير انه اذا كان من دوافع هذا الجيل هو ظروف البطالة وافتقار الدخل والمسكن، إلا أن تحليل الخصائص الاجتماعية للشباب المصرى الذى يشكل العمود الفقرى لثورة 25 يناير سوف يثبت أن شريحة ليست قليلة منهم يشغلون وظائف فى مؤسسات مرموقة ومن عائلات تكاد تقترب من الطبقة العليا فى المجتمع، بل إن بعضهم حضر من الخارج لكى يشارك فى الثورة، وهو ما يؤكد النظرية التى تقول إنه كلما تقدم المستوى المعيشى والثقافى فى المجتمع ضاق بالحكم الاستبدادى وأصبح أكثر تطلعا للحرية والمشاركة السياسية، وهو التصور الذى تراهن علية الولايات المتحدة والغرب مما يتعلق بمستقبل الديمقراطية فى دول مثل الصين.
ولكن ماذا عن جيل الشباب والعالم؟ فمثلما عبر عدد من المحللين الغربيين، فإن هذا الجيل لابد يتساءل ما الذى فعله العالم، خاصة قواه الرئيسية التى تتشدق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، عندما كان الحكام الديكتاتوريون يقهرون شعوبهم وينهبونهم، وعندما كان جيل الشباب يضرب ويقتل وتمتهن كرامته، واذا تجاوزنا عن الماضى فما الذى سيفعله العالم لدعم الديمقراطية الوليدة؟
هكذا فإذا كانت الثورة المصرية التى حركها جيل الشباب الذى ظل فترة طويلة ينتظر الإصلاح قد حققت تغييرا جذريا فى النظام السياسى وأطاحت بقمته وأركانه، وشرع نظام ما بعد مبارك فى بناء نظام وبناء دولة تتفادى خطايا النظام السابق وممارساته، إلا أن الانتفاضات الشعبية التى انطلقت فى عدد من المجتمعات العربية، فيما عدا تونس، مازالت تناضل ولم تحدث مثل هذا التغيير الذى أحدثته الثورة المصرية، وان كانت النظم العربية قد شرعت فى إدخال عدد من الإصلاحات لتفادى مثل هذه الانتفاضات غير أنه ليس من الواضح أن هذه الإصلاحات سوف تلبى تطلعات أجيال الشباب ومجتمعاتهم فى الحرية والتغيير والعدالة الاجتماعى.