الزائر لبلد أوروبى لا يرى فارقا فى تجليات الحياة اليومية كما درجت عليها عيناه، فالتقدم وارتفاع مستوى المعيشة هما نفسهما لم يتغيرا. ما قد يلحظه فى بعض البلدان هو تظاهرات لمواطنين غاضبين على حالهم وعلى حكوماتهم وعلى النظم السياسية لبلدانهم وعلى السياسات الاقتصادية والاجتماعية المفروضة عليهم. لهذا الغضب أسبابه غير البعيدة تحت سطح أرض الحياة الطبيعية الخادعة، وهى أسباب تكشف عن اضطراب حاد يمكن أن تترتب عليه آثار سياسية فى داخل البلدان الأوروبية وفى الترتيبات التكاملية التى تجمعها ثم فى إعادة هيكلة علاقاتها مع غيرها من البلدان. تبيُن أسباب الاضطراب مما يهمنا فى بلداننا العربية المتوسطية، ومنها مصر، فالقارة الأوروبية، والاتحاد الأوروبى تحديدا، هو الشريك التجارى الأول لمصر، استيرادا وتصديرا، وهو أهم مصادر الاستثمار الأجنبى المباشر، عندما يوجد هذا الاستثمار، وهو أول مصادر السياحة، كما أنه أخذ يستوعب عددا متزايدا من العمال المصريين المهاجرين بحثا عن فرص للعمل.
أول مظاهر الاضطراب هو انقسام بلدان الاتحاد الأوروبى إلى شمال مازالت بلدانه فى صحة اقتصادية معقولة، وإن بدأت علامات الأزمة فى الظهور عليها هى أيضا، وجنوب عليل من جراء سياسات كان المفترض فيها أن تعيد إلى بلدانه لياقتها، فما كان منها إلا أنها استنزفت قواها، وتركتها جلدا على عظم، لا طاقة لها على وضع السياسات الكفيلة بمعافاتها وبتنفيذها.
●●●
فى منطقة اليورو، العملة الموحدَة لسبعة عشر من بلدان الاتحاد الأوروبى، وصل عدد العاطلين عن العمل إلى 19 مليونا بمعدل للبطالة وصل إلى 12 فى المائة، وليس منتظرا أى تحسن فى عام 2013، فالمتوقع هو أن يواصل اقتصاد المنطقة انكماشه خلاله. فى جنوب القارة، الصورة قاتمة. المتوقع أن يبلغ الانكماش، بنسب مئوية سلبية، معدل 1 فى إيطاليا، و1,5 فى إسبانيا، و1,9 فى البرتغال، و3,5 فى قبرص، و4,4 فى اليونان. أما البطالة فى هذه البلدان، فلقد وصلت معدلاتها المئوية إلى 11,6 إيطاليا، و17,5 فى البرتغال، و26,5 فى اليونان، و27,1 فى إسبانيا حيث تخطى عدد العاطلين الستة ملايين، منهم ثلاثة ملايين عاطلين عن العمل لأكثر من عام طول فترة بطالتهم تزيد من صعوبة أن يعثروا على فرص عمل جديدة. بل إن بطالة الشباب فى هذه البلدان وصلت إلى 38 فى المائة فى كل من إيطاليا والبرتغال، و56 فى المائة فى إسبانيا، و58 فى المائة فى اليونان. فى فرنسا الواقعة بين الشمال والجنوب الأوروبى، أو فى كليهما معا، الصورة ليست أكثر بهاء. المتوقع هو أن يحقق الاقتصاد نموا فى سنة 2013 يصل بالكاد إلى 0,1 فى المائة، بينما قارب معدل البطالة الـ11 فى المائة وتخطى الـ26 فى المائة للشباب. الأزمة الاقتصادية والاجتماعية انعكست أزمات سياسية. فى فرنسا، وصلت شعبية رئيس الجمهورية بعد أقل من عام على توليه منصبه إلى أقل مستوى لشعبية أى رئيس للجمهورية الخامسة منذ نشأتها فى سنة 1958، وفى اليونان، وكالعادة فى أزمنة الأزمات ارتفعت أسهم اليمين المتطرف والعنصرى، واليونان بلد لا تنكسر فيه شوكة اليسار، وبالتالى فالصدام فيها لا يمكن استبعاده، وفى إيطاليا ترنح النظام الحزبى ووصل النظام السياسى إلى مأزق لم تجد له أطراف العملية السياسية لم تجد حلا إلا فى التوسل لدى رئيس الجمهورية المنتهية ولايته أن يقبل الرئاسة لفترة جديدة فاضطر، وهو الذى بلغ السابعة والثمانين، للقبول. وفى إسبانيا، ذات تاريخ الصراع الأهلى المأسوى، يحتل المزارعون الأراضى فى جنوب البلاد، وفى الشمال الشرقى، انعكست الأزمة فى خطوات محددة لانفصال إقليم قطالونيا.
●●●
الأزمة الاقتصادية والاجتماعية انعكست كذلك على الثقة فى الاتحاد الأوروبى وعلى العلاقات فى داخله وبين أعضائه. فى استطلاع جرى مؤخرا، 72 فى المائة من الإسبان أعربوا عن عدم ثقتهم فى الاتحاد الأوروبى. سياسات التقشف التى فرضها الاتحاد، عبر المفوضية الأوروبية والبنك المركزى الأوروبى ومعهما صندوق النقد الدولى، سبب رئيسى فى انعدام الثقة هذا. غير أن الإسبان ومعهم بقية مواطنى بلدان جنوب أوروبا، والأحزاب السياسية فيها، يدركون أن الداعية إلى سياسات التقشف هى ألمانيا، وتجسدت ألمانيا فى شخص مستشارتها التى أصبحت بذلك رمزا للشدة واللاإنسانية، حتى أن تقريرا رسميا فرنسيا هاجمها شخصيا فى نسخته الأولى. سياسات التقشف رفعت أسعار الضرئب والرسوم، وخفضت الإنفاق العام فتراجعت الأجور وانخفض حجم الخدمات التعليمية والصحية والتأمينية التى تقدمها الدولة وساء مستواها، وانكمش الطلب الكلى على السلع والخدمات، وبالتالى انخفض الطلب على من ينتجون هذه السلع والخدمات، أى انخفض الطلب على العمل فارتفعت معدلات البطالة. فى اليونان انخفض متوسط الدخل المباشر وغير المباشر للعاملين بما يساوى خمسة آلاف يورو سنويا، وفى إسبانيا أصبح كل أفراد 10 فى المائة من الأسر المعيشية عاطلين عن العمل غير قادرين على الكسب. فى البرتغال، وصل الأمر إلى المحكمة الدستورية التى قضت بعدم دستورية سياسة التقشف على أساس أنها افتئتت على حقوق المواطنين وميَزت بينهم بانهمارها استقطاعا من استحقاقات العاملين فى الدولة والقطاع العام بشكل خاص. نفس أحزاب يمين الوسط فى أوروبا، وليس فقط أحزاب اليسار ويسار الوسط، ضجت بسياسات التقشف. فى البرلمان الأوروبى عضو يدعو إلى «تقشف ذو وجه إنسانى»، وهو ما يذكِر، ويا لسخرية القدر، بـ«التعديل الهيكلى ذو الوجه الإنسانى»، الذى دعا إليه صندوق الأمم المتحدة للطفولة فى التسعينيات من القرن الماضى، عندما أعملت برامج التعديل الهيكلى عملها فى الوظائف الاجتماعية للدول النامية. وفى البرتغال وفى إسبانيا، حكومتا يمين الوسط تئنان وتعلنان بأنه لم يعد ثمة ما يمكن التقشف فيه، وتدعوان إلى سياسات توسعية لتنشيط الطلب الكلى. رئيس المفوضية الأوروبية، وهو من يمين الوسط أيضا، ما زال يصر على سلامة سياسسات التقشف، ولكنه يضيف أنها وصلت إلى منتهاها، وأنها بحاجة إلى حدٍ أدنى من المساندة السياسية والاجتماعية وبما أنه يعرف أن هذا الحد الأدنى غير موجود فهو يسلِم ضمنا بضرورة تغيير هذه السياسات. رئيس الوزراء الإيطالى المكلف يندد بالانشغال المفرط بالتقشف ويقول إنه صار غير كاف. الرئيس الفرنسى، لا يشغل نفسه بمناقشة السلامة النظرية لسياسات التقشف فى وقت الأزمات وارتفاع البطالة، ولكنه يريد تغييرا جذريا فى هذه السياسات. عناصر لجبهة ترتسم فى جنوب أوروبا فى مواجهة ألمانيا ومعها بلدان فى شمال أوروبا ووسطها مازالت اقتصادتها فى صحة معقولة. هذه بوادر انقسام يمكن أن يرتب آثارا بعيدة المدى فى داخل أوروبا وخارجها.
●●●
أوليست الدعوة إلى «وجه إنسانى» للتعديل الهيكلى فى البلدان النامية، وللتقشف فى بلدان جنوب أوروبا، ما يقرِب بين هذه البلدان وتلك؟ ثمة شباب إيطالى يجد أن أسباب هجرته، مثل هجرة الشباب من إسبانيا والبرتغال واليونان، إلى شمال قارته وإلى قارات أخرى بحثا عن العمل هى نفسها الأسباب التى تدفع الشباب فى البلدان العربية المتوسطية إلى الهجرة بحثا عن العمل فى أوروبا وفى غيرها. ألا يمكن أن توجد أسباب هيكلية مشتركة للتحديات الاقتصادية والاجتماعية على ضفتى البحر المتوسط؟
التحديات هى التى تفرض فى نهاية الأمر القضايا الحقيقية للأنظمة السياسية، الداخلية منها والخارجية. تنظيم العلاقات بين ضفتى المتوسط العربية والأوروبية فى حاجة إلى ابتكار وجرأة وقيادة لدى الجانبين تحوِل التحديات إلى فرص للتنمية والتقدم والسلام لشعوب البحر العتيق.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة