فى أسبوع واحد، ظهرت ثلاث دعوات من نوع جديد لتعبئة الشارع يجمع بينها أنها لا تتعلق بالدستور ولا بالانتخابات ولا نقل السلطة ولا أىٍ من تلك القضايا السياسية الكبرى التى رأيناها منذ اندلاع ثورة يناير. «عايزين نعيش»، و«مش دافعين»، و«وطن نظيف»، حملات تركز على قضايا جديدة ملموسة أكثر بكثير من معارك الشهور الماضية، وكلها تستهدف الشارع والمواطنين العاديين.
كانت البداية، التى علمنا عنها، مع تحرك سكان صفط اللبن بالجيزة مع مطلع رمضان لمحاصرة مبنى المحافظة للاحتجاج على انقطاع مياه الشرب والكهرباء المنتظم. لم تكن هذه هى المرة الأولى لهم. ففى أغسطس من العام الماضى قطع السكان الطريق الدائرى احتجاجا على انقطاع المياه، الذى يتركز فى المناطق الفقيرة خلال ذروة الصيف وتزايد معدلات الاستهلاك. هذه المرة جاء احتجاج سكان صفط اللبن على خلفية انقطاعات كبيرة متكررة أيضا فى الكهرباء وتفاقم هائل لمشكلة جمع القمامة، إلى جانب المياه، لكن على نطاق واسع للغاية يمس الجمهورية كلها.
المصرى المنتهك مواطنا ومستهلكا
فى الأغلب كان الملعب الرئيسى لمواجهات رد المظالم منذ ثورة يناير حكرا على نضال المصرى كمواطن سياسى. تركزت الأضواء دائما على مواجهات الانتخابات والمرحلة الانتقالية ووضعية الشرطة وتأسيس الأحزاب والمحاكمات العسكرية ومن يشكل الحكومة إلى آخره. وتراجعت المواجهات المتواصلة على الأرض لرد الحقوق فى ساحات الرزق والإنتاج والاستهلاك، من إضرابات واحتجاجات اجتماعية، إلى الملاعب الفرعية، ليهملها الساسة والإعلام فى أحسن الأحوال، وليتم الرد عليها بإدانة وأحيانا بقمع لا يحرك حفيظة الرأى العام فى أسوأها.
ولا تقل أهمية النوع الثانى من المواجهات عن الأولى فى الحقيقة، بل هما مرتبطان أكثر بكثير مما يظن البعض من أنصار سياسة «فلنكتب الدستور الكامل الشامل فتنحل كل العقد». الأكثر من ذلك أن حقوق المصرى المواطن فى ساحة السياسة، وهى مازالت فى الملعب برغم الخطوة الكبيرة التى فرضتها الثورة، تصبح منقوصة وشكلية إذا لم يصحبها تحول فى ميزان القوى لصالح المصرى مستهلكا. لقد احتاج مشروع الحكم، الذى قاد تحالفه جمال مبارك، الديكتاتورية السياسية لكى يفرض ديكتاتورية أخرى للشركات الكبرى، على نفس الدرجة من القسوة وانعدام الإنسانية فى سيطرتها المنفلتة على أقدار الناس وعيشها، أوجدت فقرا وبؤسا هائلا. هذه ديكتاتورية مستمرة معنا إلى الآن ولا تكفينا فيها صناديق الانتخاب.
يعكس هذا النوع من الديكتاتورية نفسه بوضوح فى حياة المصرى مستهلكا. فهو بلا حيلة. لا قول له فى نوعية أو طبيعة البضائع والخدمات التى ترسل للأسواق لكى يستهلكها. وهو ضحية ممارسات سيئة لا حصر لها، بعضها غير قانونى. هو مجبر ومدفوع على شراء سلع وحتى أطعمة وأحيانا أدوية غير مطابقة للمواصفات. بعض السلع المستعملة تقدم له على أنها جديدة. لا توجد رقابة على التسعير ولا قواعد تنظم الاحتكار وهكذا تحدد الشركات ويقرر رجال الأعمال هامش الربح المناسب مهما كان كبيرا دون اعتبار للمستهلكين، الذين يدفعون من نقودهم القليلة. ويضاعف من سوء الوضع استغلال فقر الناس وأميتهم وعدم وعيهم بحقوقهم القانونية خاصة فى الريف والصعيد. ويكاد ينطبق نفس الأمر على الخدمات العامة التى تقدمها الدولة. فبينما تركز الأخيرة على تكلفة هذه الخدمات وتحرص فى كل موازنة على المناورة لرفع أسعارها والتخلص من مسئوليتها، تهمل مستوى الخدمة ونوعيتها المتردية كما نرى فى الأغلبية العظمى من القطارات والمستشفيات أو حتى فى جمع القمامة. فى مواجهة هذا الاستغلال المنفلت المقتدر سياسيا يقف المواطن المستهلك وحيدا. لكن الثورة فتحت الطريق لتغيير هذا الوضع.
الثورة والكهرباء
يظهر الأفق السياسى المتعلق بتوازن القوى فى المجتمع ولمن تعمل الدولة ولمن يشتغل القانون فى مطالب حملة «مش دافعين». تطالب الحملة (التى بدأت حقيقة فى صفط اللبن ويظهر أنها موجودة بعيدا عن تغطية الاعلام فى قرى فى الدلتا والصعيد قبل أن يتبناها حزب التحالف الشعبى) بإعلان استهلاك الأحياء من الكهرباء لتحقيق العدالة فى تحميل العبء وبجدول معلن بمواقيت انقطاع الكهرباء ومدة قطعها «حيث إنه لا يجوز مفاجئتنا دون اعتبار كرامتنا»، وبنشر التعاقدات مع شركات النظافة (العالمية) لأن «جمع القمامة هو مسئولية الأجهزة التنفيذية وليست مسئولية المواطنين».
تواجه الحملة إذن سياسة منظمة منحازة: انقطاعات الكهرباء منحازة ضد الفقراء. الظلام طبقى يختار الأقاليم والأحياء العشوائية والقرى الصغيرة. ونصيب المهندسين ومصر الجديدة والمعادى من عبء تخفيف الأحمال أقل بما لا يقاس من نصيب صفط اللبن. ليس هذا فقط بل إن أساس المشكلة يجىء من تلك الأحياء التى تنجو من آثارها. فأحمال الكهرباء الزائدة، التى بدأت فى الظهور هى بالطبع نتيجة سوء تخطيط السياسة الحكومية منذ ما قبل الثورة، لكنها أيضا نتيجة الزيادة الهائلة فى استهلاك الأغنياء من الكهرباء، بعد الطفرة الهائلة غير المسبوقة فى شراءهم لأجهزة التكييف، التى استخدم أحمد عز أرقامها قبيل سقوطه للتدليل على أن حياة المصريين رغدة. فى مقابل ذلك فأسعار الكهرباء قد تم تحريرها للمستهلكين بخطة منسقة مع البنك الدولى فى وقت تدعمها فيه الدولة لمصانع محاسيب الرأسمالية حتى هذه اللحظة.
هكذا نحن أمام وضع يدفع فيه ساكن صفط اللبن المتعاقد مع دولته، التى يمولها من أجره ومن الضريبة على كل علبة جبن يشتريها، سعر السوق من أجل الكهرباء ولا تقدم إليه. إن أبسط قواعد التعاقد وفقا للرأسمالية هى أن يقوم مقدم الخدمة بتوفيرها حسب ما تم الاتفاق عليه وإلا كان العقد لاغيا. وهكذا فإن تهديد الحملة بالتوقف عن دفع الفواتير هو إجراء عادل وإن كان غير كافٍ، لأن الدولة ملزمة قانونيا ودستوريا وسياسيا بضمان عدم حرمان مواطنيها من الخدمات الأساسية.
هنا يظهر الفارق الجوهرى بين حملتى «عايزين نعيش» (وهى حملة تدعو المواطنين لتنظيم أنفسهم دفاعا عن مطالب العدالة الاجتماعية فى السكن والأجور وغيرها)، و«مش دافعين»، وبين حملة «وطن نظيف». فالدولة ورئيسها وحزبه الحاكم هنا وراء الدعوة، فهى تجىء من السلطة القادرة على تغيير السياسة والمسئولة عنها، وليس من المتضرر المهمَل. وعلى عكس الحملتين الأولتين، فإن التركيز هو على أن يلعب المواطن دور الدولة فى الوفاء بالمسئولية التى يدفع ثمنها من جيبه ويختار نوابه ورئيسه لضمان عدالتها. بينما يخفت فى دعوة الرئيس وحزبه ما يشير إلى ما هو مزمع لتغيير انحياز السياسات ضد الفقراء أو ضمان كفاءتها فى المستقبل (إذ لا يعقل أن يستمر المواطنون فى جمع القمامة ولن يستطيعوا إتمام دورة جمعها التى تحتاج لعملية دائمة). لم نسمع شيئا عن إعادة النظر فى التعاقدات مع شركات جمع القمامة الأوروبية الفاشلة. لم نسمع شيئا عن كيفية رفع كفاءة النظام الحالى لجمع القمامة. سكان صفط اللبن يحتجون لتغيير النظام الظالم فى ساحة الاستهلاك، والدولة تلقى بالحمل عليهم دون أن تمسه.
•••
كوشابامبا مدينة يسكنها مليون شخص فى جبال الانديز فى بوليفيا. خاض سكان هذه المدينة مواجهة بطولية فى ١٩٩٩ ـ ٢٠٠٠ ضد خصخصة المياه فيها لشركة بكتل الأمريكية، فيما قيل إنه يهدف لرفع كفاءة الخدمة. رفعت الشركة الأسعار ٣٥٪ إلى ما يقرب من خمس دخل الفرد. فانتفضت المدينة من أجل حقها فى الماء، الذى خلقه الله لنا مجانيا. فرضت المدينة شروط الحق وأوقفت الصفقة بعد أن قتل الجيش وأصاب العشرات من سكانها دفاعا عن بكتل. لكن الانتصار ألهم أمريكا اللاتينية كلها بعد أن أدار السكان ذاتيا بكفاءة شركة المياه.
•••
إذا لم يكن حقنا فى الماء والنور وفى مسكن وشارع نظيف أمرا سياسيا فما السياسة؟ «آه مش دافعين لحد ماتفهموا إن احنا بنى آدمين».