فى تقرير صدر عن المجلس القومى لحقوق الإنسان، فى الأسبوع الماضى، أن مصر أصبحت تشهد عشر حوادث طائفية فى المتوسط فى الشهر الواحد. ممثلو الدولة يصرون على التمويه على أعراض الحوادث الطائفية وعلى تجاهل أسبابها. هم يلجأون فيما يصورونه علاجا لكل حادثة على حدة، إلى ما يسمى «بالحلول العرفية»، منصرفين عن تطبيق أدوات الدولة الحديثة، وهى القوانين والسياسات، فيقوِضون بذلك من نفس أسس الدولة التى يمثلونها. «الحلول العرفية» تكريس للتمييز بين المواطنين. القوانين تصدر لتطبق على كل المواطنين، ومجرد العزوف عن استخدامها هو إعلان عن عدم الرغبة فى التعامل مع المواطنين على قدم المساواة، سواء أكان ذلك تنازلا أمام قوة من يزعمون تمثيل الإسلام والمسلمين وعنفهم، أو لقصور فادح فى أدوات الدولة لعلاج الحوادث الطائفية، أو لعجز ممثلى الدولة، أو لكل هذه الأسباب مجتمعة.
الحوادث الطائفية ليست قدرا محتوما ولا هى صادرة عن شر متمكن من نفوس المصريين وثقافتهم. فى مصدر قديم نسبيا، أن الحوادث الطائفية كانت قد اختفت من مصر، فمنذ العشرينيات وحتى نهاية الستينيات من القرن العشرين لم تسجل إلا حادثة واحدة مما تسمى الآن طائفية. لأنه يمكن للمرء أن يذهب إلى أبعد من ذلك: إن نفس مصطلح «الطائفية»، الشائع فى لبنان مثلا، لم يكن مستخدما فى مصر حتى سنوات قليلة مضت. أسباب ظهور الحوادث الطائفية منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين ثم انتشارها حتى صارت ظاهرة معتادة أريق فيها حبر كثير، وهى جديرة بالاستمرار فى البحث فيها، ولكن وقت العمل قد حان ولم يصبح يحتمل تأخرا. لا شك فى أن المسألة أخلاقية، فكيف يمكنك قبول الجور على مواطنين يميزون بدينهم، وهم الأقل عددا، وبالتالى هم الخاسرون دائما فى أى حادثة طائفية. ولكن من منظور كلى المسألة مسألة حفاظ على الوطن. لا يوجد معنى «لمصر» فى العصر الحديث إلا كانت لكل مصرى يعيش فيها بدون تمييز على أساس طائفى، أو بعبارة أكثر صراحة دينى، وإلا فإن بقعة الأرض التى نعيش عليها ستتحول رويدا رويدا وبوتيرة متسارعة لتصبح «الدولة الإسلامية»، هى نفسها التى تعمل «داعش» على إقامتها ولا يخالفهم فيها السلفيون ولا تختلف إلا قليلا عن تلك التى يتصورها كل من يريد تأسيس المجتمعات السياسية على أساس الدين.
***
وقت العمل قد حان، والدولة هى التى ينبغى أن تتصدى له، وألا تكون متقاعسة عن أداء الدور المنوط بها فى الحفاظ على سلامة الوطن. المادة الثالثة والخمسون من الدستور، فى فقرتها الثانية، تنص على أن التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون. هذا جيد ولكنه ليس كافيا، لأن الالتزام فيه على الدولة سلبى، بمعنى أنه التزام بأن تنتظر الدولة لترصد جريمة التمييز والحض على الكراهية إن وقعت ثم تعاقب عليها، والجميع أصبح يعلم أن الأدهى هو أن الدولة تتغاضى عن هذه الجريمة، وهى عمليا تنزل العقوبة بالضحية على شاكلة تهجير المواطنين الأقباط من قراهم. نفس هذه الفقرة الثانية من المادة الثالثة والخمسين من الدستور تنشئ آلية للقضاء على جميع أشكال التمييز، هى مفوضية، ويفهم من نص الجملة السابقة على تلك الخاصة بإنشاء المفوضية أن الغرض منها هو أن تكون الذراع الذى به «تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على جميع أشكال التمييز». حسنا فعل من صاغوا الدستور بإنشائهم للمفوضية حتى تتخذ «التدابير»، فلا تدابير بدون مؤسسة تصيغها وتنفذها وتتابع تنفيذها، كما أنه ليس لأى مؤسسة أو مفوضية معنى إن لم تنشأ بغرض اتخاذ تدابير محددة الغرض. ومع ذلك، فإن الاكتفاء بنص الفقرة الثانية من المادة الثالثة والخمسين من الدستور لا يؤدى الغرض من مجمل المادة. روح هذه المادة تستخلص من الفقرة الأولى منها التى تنص على أن «المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو الانتماء السياسى أو الجغرافى أو العرق أو اللون أو الإعاقة أو المستوى الاجتماعى أو لأى سبب آخر». روح المادة هى أن الغرض من المفوضية لا يمكن أن يكون مجرد «منع التمييز» وإنما هو أيضا، بل أولا، وحسب ترتيبات العبارات فى نص الفقرة الأولى، تحقيق المساواة بين المواطنين «فى الحقوق والحريات والواجبات» فعلا وليس قولا فقط.
عليه، فإن المفوضية التى يجب أن تنشأ إعمالا للدستور هى «مفوضية لتحقيق المساواة» بين المواطنين، تكون مكافحة التمييز من بين أهدافها الوسيطة، أما إن رأى البعض ضرورة أن ترد عبارة عدم التمييز فى اسم المفوضية، فيمكن أن يكون اسمها «مفوضية لتحقيق المساواة ومكافحة التمييز». هذه المفوضية لا ينبغى أن تكتفى «باتخاذ التدابير». قانون إنشاء هذه المفوضية يجب أن ينص على أن يكون الهدف منها تحقيق المساواة بين المواطنين وأن يكون سبيلها إلى ذلك صياغة سياسة كاملة متكاملة لتحقيق المساواة. «التدابير» ليست إلا جزءا من أى سياسة. فى واحد من التعريفات، «السياسة» هى «مجموعة من القواعد والإجراءات والتدابير المتخذة لتحقيق هدف محدد مسبقا». «السياسة» تحرك إيجابى من الدولة، بمعنى أنها تنشط لتحقيق المساواة، ولا تكتفى بالرصد من أجل مجرد الحيلولة دون التمييز والحض على الكراهية. خصوم المساواة وأنصار التمييز قد يسارعون بالاحتجاج بأن الدستور اكتفى «بالتدابير» ولم يشر إلى سياسة كاملة. الرد على ذلك ميسور إن كانت الدولة مدركة فعلا للخطر الذى يحدق بها وإن كانت بالتالى جادة فى الحفاظ على سلامتها وعلى الاندماج بين المواطنين. من جديد روح المادة الثالثة والخمسين المستمدة من فقرتها الأولى، هى التى يستفاد بها لبلوغ الهدف من المادة، وهو تحقيق المساواة بين المواطنين، وجلِى أن المدى الذى وصل إليه التمييز لا تكفيه التدابير المنفردة هنا وهناك التى لا تجمعها سياسة متكاملة ومتناسقة واحدة.
***
سياسة تحقيق المساواة ستكون سياسة أفقية، بمعنى أنها ستشمل قواعد وإجراءات وتدابير فى عدد كبير من السياسات، القطاعية وفى مجال الإدارة العامة والإدارة المحلية، بل والسياسة المالية. مثل قانون بناء دور العبادة الموحد فى حد ذاته أو حتى حماية الدولة لممارسة الشعائر الدينية، وليس فقط حرية ممارستها، لا يفيان بالغرض مطلقا. السياسة التعليمية، فى التعليم العام وفى التعليم الأزهرى، يجب أن تنقى المناهج من كل ما يحرِض على التمييز أو فيه شبهة منه، كما أنها يجب أن تحض على المساواة. السياسة التعليمية يجب أن تعالج التمييز الذى يمارسه المعلمون وذلك الذى ينشأ عن ضغوط أهالٍ متعصبين. تنظيم الدورات التدريبية للمعلمين واستبعاد من لا سبيل لإصلاحهم من قاعات الدرس من إجراءات سياسة لتحقيق المساواة. المدرسة هى المكان والوسيلة الأهم فى عملية التنشئة الاجتماعية للمواطنين، ولذلك فإنه يقع جانب كبير من المسئولية عن تحقيق المساواة على السياسة التعليمية. السياسة الثقافية وسياسة وسائط الاتصال، ينبغى أن توظفا لتحقيق المساواة. الدولة يمكن أن تقدم الدعم المالى والفنى للمنتجات الثقافية والاتصالية التى تحض على المساواة وتكافح التمييز.
سياسة التعيينات فى الحكومة، وفى القطاع الخاص، وفى الترقى فى الوظائف فيهما، يجب أن تنص على تدابير ملزمة لكى يكون المواطنون جميعا، بدون اعتبار لأى خصائص يتميزون بها، ممثلون فى كل الأجهزة والإدارات وعلى جميع مستويات المسئولية. سياسة الإدارة المحلية يجب أن تعمد على تعيين المحافظين ورؤساء المدن وأعضاء مجالسها من الأقباط. السياسة المالية لابد أن توفر المخصصات الضرورية، لتطبيق إجراءات سياسة تحقيق المساواة وبلوغ أهدافها. سياسة تحقيق المساواة تصيغها المفوضية بالتعاون مع الوزارات والأجهزة المسئولة عن كل سياسة تدرج فيها إجراءات وتدابير لمكافحة التمييز وتحقيق المساواة، ثم يجب أن تعتمد هذه السياسة بقانون فى مجلس النواب. أما قانون إنشاء المفوضية ذاته، فإنه ينبغى أن ينص على دورى التنسيق والمتابعة لتطبيق سياسة تحقيق المساواة الذى تخول به المفوضية. فضلا على أنه لابد أن يمنح للمفوضية حق اختصام أجهزة الدولة أمام القضاء الإدارى إن هى تقاعست عن التعاون فى صياغة سياسة تحقيق المساواة أو فى تطبيقها.
***
لن تكون صياغة سياسة لتحقيق المساواة وتطبيقها يسيرة، ولكنها ضرورية تماما والدولة والأغلبية الساحقة من المواطنين قادرون على الفوز فى أى مواجهة تنشأ مع أصحاب التطرف بشأنها. التهاون ليس واردا. إن فرض المتطرفون التمييز اليوم على المواطنين الأقباط، فإنهم لن يتوقفوا عنده. غدا سيميزون بين المواطنين المسلمين ويضطهدون ويقمعون أولئك الذين لا يطبقون تفسيرهم هم لصحيح الدين الإسلامى.
مكافحة التمييز ضد المواطنين الأقباط وتحقيق المساواة لهم هو الجانب الملِح فى قضية المساواة، وهو ذو الخطورة الحالة. غير أن مسألة المساواة أوسع من ذلك، فهى تشمل مثلا القضاء على التمييز ضد المواطنين من أهل النوبة الذين يرغبون فى العودة إلى موطنهم الأصلى على ضفاف بحيرة السد العالى، وقد اكتملت منذ عقود، ولكنهم لا يمكنون من ذلك لحجج معلنة أو مبطنة تتعلق بالحفاظ على «الأمن القومى»، والأمن القومى منها براء، فهى حجج واهية لا تصمد أمام أى جهد يفنِدها.
الطريق صعب وطويل، والعزم ضرورى.
ولكن لا يشك أحد فى أن المساواة الفعلية وحدها هى التى تكفل لمصر السلامة، وتؤمنها وطنا عزيزا غاليا على كل بناتها وأبنائها.