كبار السن.. أوهام وحواديت - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 13 سبتمبر 2024 2:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كبار السن.. أوهام وحواديت

نشر فى : الثلاثاء 30 يوليه 2024 - 7:00 م | آخر تحديث : الثلاثاء 30 يوليه 2024 - 7:00 م


أحد أهم أحلام مرحلة معينة من شبابى كان أن أكبر بسرعة لأعيش كالمسنين. كان لشيخوخة أحلامى مواصفات معينة لم أجدها مكتملة فى شخص بين كل من عرفت وقابلت ممن تقدم بهم العمر فى عائلتى أو فى الحى الذى نشأت فيه ونضجت أو فى دائرة رؤسائى فى العمل. يبدو لى الآن، وقد تجاوزت بعقود هذه المرحلة من أحلام شبابى، أننى انتقيت لمستقبلى فى الحلم صفة من رجل مسن وصفة مختلفة من مسن آخر وصفة ثالثة من رجل ثالث حتى اكتملت فى عقلى المتمرد دائما مواصفاتى لرجل أحلامى فى شيخوخته.
• • •
انتقيت لرجل أحلامى عصا سوداء كان يمسك بها رجل يسكن بآخر بيت فى شارعنا ليستند عليها ويهش بها الكلاب. انتقيت مع صاحب العصا رجلا طويل القامة مستقيم الظهر يمشى مرفوع الرأس وفوق الرأس طربوش أحمر حديث الكواء. لم يفتنى فيما يبدو أن يكون حذاؤه من الجلد وعلى الدوام لامعا. أذكر أيضا أنه كان، كما ظهر فى مخيلتى، حليق الذقن حاد النظرات مرتب الثياب مهيب المظهر. انشغلت فى فترة من فترات شبابى بصنع هذا الإنسان فى خيالى حتى صرت أقلده فى المشى وفى الكلام فقيل عنى «هذا الولد يشيخ قبل أوانه».
• • •
أنا الآن وقد تقدم بى العمر كثيرًا أجد نفسى وقد فشلت فى تحقيق حلم الصبا والشباب بصنع شيخوخة بمواصفات معينة. لم أتقاعد كما يفعل كبار السن. لا أمسك بعصا أتوكأ عليها أو أهش بها على الكلاب. لست مريضًا أو متعبًا حتى أحتاج لعصا أتوكأ عليها. وكلاب اليوم حيث أسكن لا تعوى ولا تنبح ولا تطاردنى كما كانت تفعل كلاب شارعنا عند مرور كبير فى السن فيهشها بعصاه. شيخوختنا وكلابنا ليست مثل شيخوخة وكلاب تلك الأيام.
• • •
أنا الآن أكبر الكبار عمرا فى عائلتى الممتدة. أظن أننى أعمل بحكمة سجلها إبراهيم ناجى وغنتها له ولنا أم كلثوم. غنت تقول «واثق الخطوة يمشى ملكا». أعرف أن التهديد الأكبر فى الشيخوخة يأتى من السيقان. بعض كبار السن أدركوا هذه الحكمة مبكرا فمارسوا المشى حتى أيامهم الأخيرة. لم يرقدوا فى فراش مرض، من هؤلاء والدى وشقيقى حسب ما كانت تنقله الرسائل لى وأنا فى الخارج. بعض آخر فضل الراحة بالاستلقاء أو النوم أو الجلوس طويلا. يرتاح الصدر وتتعب الساقان. جدتى مثلا بسبب وزنها وتعب ساقيها فضلت الاستلقاء فى فراشها لسنوات عديدة تشكو أوجاع الساقين. استمر الوزن فى الزيادة. جاء يوم تمردت فيه الساقان بإعلان رفضهما حمل الجسم وما زاد عليه من شحم ولحم. كانت إذا تمددت فى سريرها لتنام ملأته بالكامل وإن جلست ملأت أكثر من نصفه.
• • •
أذكر «أم سيدة» الفلاحة التى كانت تأتى إلينا لترى ابنتها وتحصل على أجرتها وما تقرره أمى كمكافأة مناسبة لما حملته فى «القفة» وغالبا ما حملت «فطير مشلتت ودكر بط وقشطة بلدى». كانت إذا غضبت منا نحن الصغار هددتنا بأن تشكونا إلى «الرجل العجوز» الذى كان يمر عادة فى شارعنا ويصعد إلى شقتنا فى المواسم ليحصل على رغيف خبز محشو بالأرز واللحم المسلوق. كانت تعليمات أمى لجماعة الخدمة والمساعدة تقضى بإخفاء الأطفال عن نظرات هذا «الراجل العجوز». يعنى بكلمات قوية ومحسوبة، «يأخذ رغيفه ويمشى لحال سبيله».
• • •
«أم فاطمة» فلاحة أخرى تزورنا أيضا فى المناسبات وعلى رأسها قفة أصغر من قفة «أم سيدة». كنا صغارا ولكن رسخ فى ذهننا أنها أفقر حالا. رسخ أيضا وإلى يومنا هذا الذى أكتب فيه هذه السطور أنها أفضل وأحسن من روى الحواديت. منها تجذرت فى عقولنا الرخوة ولكن الخصبة حدوتة الراجل العجوز أبو رجل مسلوخة وحدوتة لا تقل رعبا ورهبة وكانت عن الراجل العجوز «اللى اتجوزته واحدة من بنات الجن وخلفت منه عيال كتير ليهم ديل وقرون».
• • •
ليس دفاعا عن المسنين ولكن عن الحقيقة أقر هنا أن كبار السن ليسوا نوعًا واحدًا. أكثرهم بين من أعرف قرروا أن يكونوا صرحاء لا يكذبون ولا يخفون حقيقة أو ألمًا. يبدون لمن حولهم لا يسمعون. هم فى حقيقة الأمر مستمتعون بصمتهم وسكونهم وقلة حركتهم. يعيشون لحظات طويلة من الصدق، لم يقدر لهم فى حياتهم الممتدة أن يعيشوا مثلها. يجب ألا ينسى الأهل والأصدقاء أن المسن بين كبارهم لا ينتظر مساءلة أو حساب، وفى الحالتين غير عابئ ولا مبالى.
هؤلاء المسنين تولدت لديهم عبقرية قراءة ما فى الصدور. لا يملون الهدوء والسكون مهما طال الصمت وتوقف الكلام. يستعينون على صد الملل بقراءة العيون فى ظل اطمئنان الأهل إلى ضعف سمع الجدة أو الجد، هؤلاء لم يبلغهم نبأ الأسطورة. كلاهما الجد والجدة نجحا فى تطوير مهام الحواس لتعمل بتكامل وتنسيق. كلاهما أدرك مبكرا عبقرية الأطفال وقدرتهم على ترجمة ما يدور فى المكان والرد بما يستحق أو عدم الرد إذا لم يستحق.
• • •
بالمناسبة أعترف أننى لم أجد بعد إجابة على سؤالى الحائر على امتداد سنة أو أكثر: بأى لغة يفكر الطفل وهو فى عمر الشهور؟، صرت أطبق السؤال نفسه على المسن وهو فى عمر الثمانين أو أكثر. أسأل بأى لغة يفكر المسن؟
لا أبالغ.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي