جمهورية عساكر (5) - وحيد حامد - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:18 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جمهورية عساكر (5)

نشر فى : الأربعاء 30 ديسمبر 2009 - 9:22 ص | آخر تحديث : الأربعاء 30 ديسمبر 2009 - 9:22 ص

 التوغل داخل عزبة خير الله عقوبة إجبارية للغرباء الذين تدفعهم الضرورة إلى دخولها حتى لو كانوا من رجال أمن الدولة، والبحث فى أحراشها عن مطلوب أو مطارد مؤلم ومضنٍ كمن يُغلى القنفذ، سار الضباط والأمناء خلف بعضهم فى طابور يقودهم المرشد المتطوع «مجدى الفرخ» إلى منزل أبوالسباع حيث يسكن حسين عساكر.. لاحظ السيد المقدم قائد المهمة أن الحوائط والجدران عليها كتابات لا يستطيع أن يعترض عليها أو يعتبرها مخالفة للقانون ولكنه لا يرتاح إليها.. أخذ يتأملها جيدا وهو حائر فى شأنها، مكتوب على حائط قال أبوذر الغفارى «إذا ذهب الفقر إلى بلد، قال له الكفر خذنى معك».. وعلى جدار قريب كتب: «الإنسان إذا افتقر سرق، وإذا اغتنى فجر وفسق»، وأيضا قول سيدنا على بن أبى طالب كرم الله وجهه: «ما ضرب الله عباده بسوط أوجع من الفقر».. ولأن مجدى الفرخ قد أدرك اهتمام السيد المقدم بهذه الكتابات فأراد أن يوجه إلى عساكر ضربة تجهز عليه، ادعى البراءة وهمس كثعبان سام:

ــ كل الحاجات دى شغل حسين عساكر.
ثم توقف عن السير فجأة وبالتالى توقف كل أفراد القوة وأشار لهم على كتابة جديدة قائلا: أنا راضى ذمتكم.. دا كلام يتكتب..؟!.
كان الكلام المكتوب هو قول الغفارى أيضا: «عجبت ممن لا يجد القوت فى بيته، كيف لا يخرج عن الناس شاهرا سيفه».. قال المقدم:
ــ انت شفت عساكر وهوه بيكتب الكلام دا..
قال الفرخ:
ــ لا ياباشا.. بس أنا عارف خطه..

أدرك الضابط المحنك أن هذا «الفرخ» يحمل فى صدره ضغينة ضد عساكر وعليه أن يكون حذرا فيما يسمع منه حتى يقف على حقيقته، والحقيقة التى سيطرت على أفراد القوة فى تلك اللحظات هى أنهم نسوا أنهم أمن دولة وأنهم فى مهمة وأخذوا يتهامسون ويتحاورون فيما بينهم.. قال أحدهم: إذا كان اللى بره البيوت كده.. أمال اللى جواها شكله إيه..؟ وقال الثانى: الناس دول لو هجموا على المعادى يستولوا عليها فى نص ساعة ولا حد هيقدر يحوشهم لا أمن مركزى ولا أمن مركز.. وقال الثالث: الخوف مانعهم من الهجوم، ودا من ستر ربنا. فرد الثانى: مش الخوف بل الصبر.. وفجأة سأل السيد المقدم مجدى الفرخ:
ــ انت بتشتغل إيه يا مجدى يافرخ..؟
فرد الفرخ فى تلاعب ودهاء:
ــ هو فيه شغل ياباشا..؟ لكن آهى بترزق..

وقرر الضابط أن يقوم بالكشف عنه فى الملفات فقد ارتاب فى أمره بعد أن فقد الثقة به ورأى فيه شخص لزج مثل عرق صمغ أفرزته شجرة سنط سوداء ذات أشواك.. وسلوكه يدل على أنه متسلق وانتهازى ومن المؤكد أنه يلعب لنفسه أولا.. من يكون مجدى الفرخ هذا..؟ وما سبب هذه الكراهية والنار المشتعلة بينه وبين حسين عساكر.. الحقيقة أنه نزح إلى العزبة لأول مرة زاعما أنه جاء لزيارة ابن خالته، واخترع له اسما وهميا وطاف بالعزبة كلها يسأل عنه حتى صار معروفا لدى الجميع بالجدع اللى بيدور على ابن خالته.. وعندما قابل حسين عساكر وسأله عن ابن خالته أدرك حسين أنها خدعة وأن هذا الفرخ جاء إلى العزبة ليختفى فيها بعيدا عن أعين ترصده شأنه شأن العشرات بل المئات حيث إن الحياة تشبه إلى حد بعيد حياة الغابة الإستوائية، حيث تخلط الأسود مع القرود مع الحمر الوحشية، قال له حسين عساكر:

ــ خليك فى العزبة لغاية ابن خالتك ما هوه اللى يلاقيك.. بس عبى معدتك بمعرفتك.. لأن العزبة كلها أهلها بطونهم فاضية..

وعلم بالنصيحة المجانية التى حصل عليها.. هبط إلى المقابر يجنى المتاح من فطائر الرحمة على الأموات ومعها بعض حبات البلح وثمرات الجوافة.. وهكذا انتهت مشكلة المعدة الفارغة.. وسرعان ما وجد دروبا ومسالك جديدة لجنى الرزق فى هذا المكان حيث كان يقف فى نطاعة أمام أى مقبرة فتحت لاستقبال أحد الراحلين عن الدنيا ويتحمس فى الدعاء للمرحوم فى حرارة شديدة لا تبرد إلا بعد أن يحصل على نفحة مالية من أحد أقارب الفقيد.. وأكثر من ذلك وفى كثير من الأحيان كان ينضم إلى قراء القرآن الكريم الذين يرتلونه فى جماعة رغم أنه لا يحفظ منه شيئا ولكنه يتمايل ويهز رأسه ويهمهم وفى النهاية ينال نصيبه، وكان يومه عبارة عن تنقلات بين المقابر المفتوحة، وكانت لديه قدرة غير عادية على شم رائحة الموتى وهم على الطريق.. وأيضا جمع فريقا من الأطفال جعل منهم ناضورجية يخبروه بقدوم أى جثمان.. وجرى المال فى يده.. وحدثت فى حياته نقلة.. حيث اشترى المحمول.. واستأجر مسكنا.. وأصبح يسهر فى الغرزة يدخن أحجار المعسل «المغمسة» قال لرجال أمن الدولة:

ــ وصلنا يابشوات.. البيت أهه..
ولاحظ ضابط أمن الدولة أنه اهتز وارتبك وفقد حالة الثبات التى كان عليها قال له الضابط:
ــ مالك يافرخ...!؟
ابتسم ابتسامة الخائف وقال:
ــ أصل مراته لسانها أطول منها.. والأمور أصلها معكرة بينا وبين بعض..

وفجأة فتح الباب من الداخل وأطلت «شهيرة» كأنها كرة صغيرة من النار المتوهجة، لم تشاهد أحدا سوى «مجدى الفرخ» رغم وجود فريق أمن الدولة إلا أن صورتهم اختفت من أمام بصرها، وهجمت عليه كأنها قطة شوارع مدربة على العراك مع الكلاب الضالة.. وصاحت:

ــ انت.. انت تانى ياعديم الأصل.. لو كان عندى شبشب كنت ربيتك بيه..؟
وانهالت عليه صفعا وركلا فى حيوية وانسجام إلى أن صاح مستغيثا:
ــ الحقونى يا حضرات الظباط..

هنا فقط رأت حضرات الضباط الذين لم يحاولوا التدخل لإبعادها عنه خشية أن ترمى بلاها عليهم وتتدعى أنهم عذبوها حتى أنهم جميعا وضعوا أيديهم خلف ظهورهم وعقدوها.. أما السيدة شهيرة فقد تأملت وجوه حضرات الضباط.. وأرخت يديها وأفلتت «الفرخ» من قبضتها قائلة له:
ــ آه ياواطى.. عارفة انك زى الكتكوت الشارد فى الحوارى..
إذا رجع يرجع شايل وساخة الوساخة فى رجليه.
هنا صرخ فيها أحد الضباط..
ــ اخرسى يا............

وقبل أن يكمل جملته رفع قائد المهمة يده فساد الصمت لحظات حتى قطعته السيدة شهيرة فى جرأة وثبات:
ــ الله.. الله على الحق.. والحق الله عليه.. عاوزة حاجة تثبت لى إنكم ظباط ومش الجماعة بتوع التوك شو..
الجماعة بتوع التوك شو، جملة نفذت إلى عقل ضابط أمن الدولة فهذه المرة الثانية التى يأتى فيها ذكر «التوك شو».. واتخذ قراره الحاسم وأخرج كارنيه أمن الدولة ورفعه فى يده أمام عينيها قائلا:

ــ إحنا ضباط أمن دولة يا مدام شهيرة..
هنا وبمجرد انتهاء الضابط من جملته أطلقت السيدة شهيرة زغرودة قوية طويلة وممتدة، على أثرها فتحت نوافذ هنا وهناك. وأطل منها نساء ورجال وأطفال.. وفتحت أبواب انطلق منها كل من كانوا خلفها واتجهوا نحو مصدر الزغرودة وفى أقل من دقيقة كان أمام بابها ما لا يقل عن خمسين فردا من مختلف الأعمار:
ــ خير يا زينة العزبة.. فرحينا معاكى..
نظر السيد المقدم قائد المهمة إلى زملائه قائلا:
ــ وقعنا فى الفخ.. إحنا كده محاصرين يا جماعة..

*******
فى قسم قصر النيل سأل الأستاذ أدهم عن الحمام، فوجدها الضابط هيثم فرصة للتخلص منه فقال له أنا لا أنصحك بدخول الحمام هنا داخل القسم خشية حدوث ما لا تحمد عقباه خاصة أن الحمام الوحيد الذى يليق برجل مثله وفى مكانته هو الحمام الخاص بالباشا المأمور وهو مغلق والمفتاح مع السيد المأمور طوال الوقت وأن عليه العودة إلى منزله واستعمال الحمام الخاص به طلبا للسلامة من كل سوء خاصة أننا فى زمن أمراض، إلا أن الرجل المحنك رفض هذا العرض قائلا:

ــ مهما كانت حالته هيكون أحسن حالا من حمامات المحاكم..

ثم دخل الحمام وخرج وهو يهتف قائلا: فظيعا جهل ما يجرى وأفظع منه أن تدرى.. وجلس إلى جوار حسين عساكر وهتف به.. اسمع يا ابنى نحن نعيش فى وطن يستحق البكاء عليه فكيف تقدم على هذا الفعل الأحمق بالنسبة لواحد مثلك لا حول له ولا قوة.. تروح فين يا صعلوك فى عالم الملوك..؟؟ كيف تحكم بلدا شعبه يبول فى النهر الذى يرويه أرضا وبشرا، كيف تحكم شعبا يتحدث طوال الوقت عن الدين ولا يعمل به..؟ كيف تحكم شعبا تعود على الاستسلام والخنوع.. كيف تحكم شعبا بات لا يعرف كلمة لا.. كيف تحكم شعبا يرى أحواله فى تدهور ومع هذا يلتزم الصمت.. كيف تحكم شعبا لا يقدر ثقافة العمل وأنه أساس القوة والرخاء.. كيف تحكم شعبا لا يهمه العلم ولكن تهمه الشهادة..؟ كيف تحكم بلدا تسيطر عليه الشعارات والأكاذيب..؟ وصمت لحظة وسأله من جديد.. يا الله سمعنى هتقول إيه..؟

وإلى اللقاء الأسبوع المقبل

وحيد حامد سيناريست وكاتب صحفي
التعليقات