كانت إجابة وزير الاتصالات طارق كامل على هذا السؤال هى أن طرح رخصة جديدة ليس أمرا مستبعدا، وأنه ليس فى القانون ما يمنع ذلك. وبينما قرأ البعض فى توقيت طرح الموضوع تهديدا للشركات القائمة، أو بعضها الذى هو فى نزاع حول التسعير واتفاقات الترابط وغيرها مع الشركة الحكومية المحتكرة للتليفون الثابت، المصرية للاتصالات، نفى كامل ذلك تماما.
أما المحددات التى سيتخذ على أساسها القرار بالسماح لمنافس رابع لموبينيل وفودافون واتصالات من عدمه، فقد صاغها الوزير فى التعليق الذى انفردت به «الشروق» يوم السبت 23 يناير: عوامل تتعلق بمصلحة القطاع والمواطنين لم يحددها، وعوامل أخرى فنية مرتبطة بالترددات، ولم ينس الوزير أن يشير إلى أن تأثير الرخصة على أرباح الشركات الثلاث العاملة حاليا فى السوق «عامل آخر سيتم أيضا آخذه فى الاعتبار».
وأعتقد أن السؤال الصحيح يبقى هو: هل تحتاج مصر ــ أى المصريون ــ شبكة رابعة للمحمول أم لا؟، وأن العوامل الأخرى يجب أن تكون تابعة لهذا السؤال وليس العكس.
بداية.. الاتصالات فى طليعة القطاعات التى تشهد نموا كبيرا. ففى عام الأزمة، العام المالى 2008/2009 كان معدل نموه 14.6%، تراجع قليلا إلى 13.5% فى الربع الأول من العام الحالى، مما دعا كثيرا من المحللين لاعتباره قطاعا دفاعيا.
وارتبط بهذا النمو بالتأكيد ارتفاع عدد مستخدمى المحمول بشكل هائل بعد احتدام المنافسة بين المشغلين الثلاثة دافعة الأسعار لمستويات مقبولة. إذ بين نوفمبر 2008 ونوفمبر 2009، قفز عدد المستخدمين 33.7% من 40.2 مليون مصرى إلى 53.7 مليون.
الأهم من ذلك، هو أن ما يسمى بمعدلات التشبع، أى عدد المستخدمين بالنسبة لعدد السكان، مازال متواضعا فى مصر مقارنة حتى بالدول العربية الأخرى. ففى 2008 كان المعدل فى مصر 54% من السكان، محتلة بذلك المرتبة 14 بين الدول العربية، لتسبقها فى ذلك كل دول الخليج، بمستويات فوق الـ100%، كأغلب الدول المتقدمة، وصلت إلى 208% فى الامارات. بل إن دولا كالعراق وتونس والجزائر تفوق مصر، التى تتفوق فقط على دول عربية تمزقها النزاعات السياسية كالسودان واليمن والأراضى الفلسطينية. هذا مع الوضع فى الاعتبار أن الأرقام المصرية تعتمد على المستخدمين المسجلين وليس النشطين، وهو ما يعنى أن الأرقام الحقيقية أقل من ذلك.
يعنى هذا بوضوح أن آفاق نمو القطاع المتوقعة مازالت مبشرة للغاية، وهو ما يتفق عليه كل المحللين. ويتوقع بنك الاستثمار بلتون، فى تقرير له عن القطاع فى آخر ديسمبر الماضى، أن يرتفع معدل التشبع إلى 80% بنهاية 2010.
ويدفع البعض بأن هذا النمو مبالغ فيه فى دولة فقيرة كمصر على أساس أنه يعبر عن استهلاك ترفى لا داعى له. غير أن الدراسات تؤكد أن نمو المحمول هو ظاهرة عالمية لا تعبر عن تغيير فى علاقة الإنفاق على الاتصالات بالناتج المحلى (النسب بين 3% إلى 4% فى العالم)، وإنما تغيير فى التوجه داخل القطاع من الثابت نحو المحمول، وهو توجه عالمى أيضا مدفوع بتراجع أسعار المحمول. وفى دولة كمصر، يكون لذلك أثر تنموى محمود بربط عدد أكبر من الناس بشبكة الاتصالات القومية. ولم يعد الإنفاق على المحمول أيضا مرتبطا فقط بإنفاق القلة الثرثارة (يسيطر مستخدمو الكارت المدفوع مقدما على السوق فى مصر)، وإنما أيضا بالوصول للبيانات والاتصال بالانترنت.
ولا يخفى ما لهذه التحولات من آثار سياسية واجتماعية بالغة الأهمية، إذ إنها خلقت وسيلة للتعبير بل والتنظيم الشعبى لحركات المعارضة الشعبية، خاصة فى النظم السلطوية التى تغيب فيها الأحزاب والنقابات، كما ظهر فى إضراب 6 أبريل فى مصر، ومظاهرات إيران العام الماضى. الاتصال يكسر عزلة الجماهير ويعمق قدرتهم على المعرفة والمشاركة.
أما عن أرباح الشركات فيكفى أن نذكر بالنقاش الشبيه فى منتصف العقد الماضى، قبل طرح الرخصة الثالثة، وقت إنه كان هناك احتكار ثنائى وشبه جمود فى الأسعار. وقتها دفعت الشركات بحجج محدودية السوق والضغط على الأرباح. والآن بعد أن تراجعت الأسعار من 175 قرشا للدقيقة إلى 8 قروش للدقيقة بحسب بعض العروض، فإن معدلات الأرباح مازالت عند مستويات مرتفعة بفضل نمو قاعدة المستهلكين، حتى برغم تراجع معدل العائد لكل مستخدم. ومن الواضح والأكيد أن أيا منها لم ينسحب. ويبقى من الطبيعى أن ترفض الشركات دخول منافس جديد يقلل من معدلات الأرباح ويغير قواعد المنافسة لكنها فى كل حال لن تنسحب لأن سوقنا المزدحم يبقى لقمة هنية.
اليوم يجب أن تسبق اعتبارات مصلحة المستهلكين، وتنمية الناس على هذه الاعتبارات، ويعنى ذلك أن الأولوية هى لإدخال مشغل جديد يحفز المنافسة لصالح المستهلكين وينمى حرية المصريين فى الاتصال ببعضهم وبالعالم، وليس للرخصة، التى ستجلب مليارات الجنيهات للموازنة وتسد مجانا أحد ثقوب عجزها الأزلى، ولا لأرباح الشركات التي نالت حقها تماما من جيوبنا.