أولا: مقدمات
1ـ الأديان جميعا لها تعلُّق بالمجال العام فمن التعسُّف القول بأن الدين مسألة تتعلق بالفرد وحسب، والحال أننا نعلم أن ما هو فردى لا ينفك عن التحول إلى اجتماعى، أى قابل لأن يصبح ذا صلة بالسياسى ولكن تتفاوت الأديان من جهة حدود هذه العلاقة ومدى شمولها أو اتساعها لتدخل فى تفاصيل المجال العام من عدمه.
2 ـ العلاقة هى فى حقيقتها بين الدينى والمجال العام؛ الدينى هنا:
ـ تأويلات وتفسيرات وقراءات للدين.
ـ مؤسسات وأشخاص/ جماعات وتنظيمات.
ـ توظيفات واستخدام للدين لإضفاء الشرعية على السلوك السياسى والاقتصادى والاجتماعى، أو الصراع حول من يملك هذه الشرعية.
ومن ثَمَّ فإن علاقة الدينى بالمجال العام:
ـ متطورة لأنها ترتبط بالسياقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكذا السياسية.
ـ متعددة لأن إدراكات البشر وقراءاتهم للنص الدينى تختلف وتتفاوت، وفى أحيان تكون متصادمة متناقضة مع بعضها، تناقضا قد يصل إلى الصراع.
ثانيا: من الناحية الدستورية... جدل المادة الثانية من الدستور المصرى:
1 ـ بالرغم من استخدام هذه المادة فى الحشد والتعبئة السياسية من قبل بعض الأطراف السياسية خاصة عند التعديلات الدستورية التى جرت فى مارس من العام الماضى، على الرغم من ذلك إلا أنه يلاحظ أنه حدث توافق بين جميع القوى السياسية (ليبرالية وإسلامية) على الإبقاء على هذه المادة والتى تنص على أن: «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع» مع إحداث قدر من التعديل والإضافة إليها.
فالدعوة السلفية وحزبها يرون ضرورة تعديل المادة لتصبح أحكام الشريعة بدلا من مبادئها باعتبار أن المبادئ يقصد بها من وجهة نظرهم المبادئ العامة للشريعة مثل العدل والحرية... إلخ، أما الأحكام فيقصد بها الأحكام التفصيلية التى تنص عليها الشريعة، على الرغم من أن تفسير المحكمة الدستورية للمادة الثانية يتضمن الأمرين معا (المبادئ والأحكام القطعية الدلالة قطعية الثبوت أى التى لا تقبل تأويلا أو تفسيرا).
أما الإضافة الاخرى إلى المادة الثانية فتطالب أن ينص على أن لغير المسلمين أن يحتكموا إلى شرائعهم فى مسائل الأحوال الشخصية، وهذه الإضافة أيضا تقرير لما تنص عليه الشريعة فى هذا الصدد، وتأكيد لما يجرى عليه الواقع فى مصر، فاحتكام غير المسلمين للشريعة فى مسائل الأحوال الشخصية يأتى فى حال عدم وجود نص فى شرائعهم أو اختلاف الملة بينهم.
ثالثا: من الناحية القانونية:
فى تفسير المحكمة الدستورية لنص المادة الثانية أكدت أن المخاطب بها هو المشرع، وأن أحكامها لا تسرى بأثر رجعى على القوانين السابقة.
لكن يبقى المشكل الذى لم تتضح معالم التعامل معه حتى الآن، هو أن أغلبية مجلس الشعب والشورى ـ أى المشرع ـ هى من الإسلاميين أى هم المخاطبون بهذه المادة القانونية؛ فهل سيسعون إلى تحويلها إلى واقع فى النظام التشريعى المصرى، على الرغم من إشارة عدد من القانونين المعتدلين إلى أن جل التشريع المصرى غير مخالف للشريعة. وهنا ملاحظة جديرة بالتنويه، يمكن استخلاصها من الجدل المثار حول تغليظ العقوبة فى جرائم ترويع المواطنين أن عضو البرلمان ـ عن حزب النور ـ المتقدم لتعديل التشريع لم يستخدم فى قانونه «حد الحرابة» وإنما طالب بتعديل القانون ليدمج العقوبات المقررة فى الحد دون أن يطلق عليه ذلك. كما يلاحظ على الوجه المقابل أن التوافق بين القوى السياسية حول المادة الثانية من الدستور المصرى لا يعنى الإقرار أو الموافقة على جميع ما يترتب على هذه المادة من تعديلات أو تغيير فى النظام القانونى المصرى.
رابعا: من الناحية السياسية:
1ـ لايزال هناك حضور متصاعد منذ منتصف الثمانينيات للدينى فى المجال العام، وفى جميع المناحى: اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وثقافية، هذا الحضور المتزايد كان من جميع الأطراف، وبجميع الوسائل بحيث يمكننا القول إن هناك فائضَ حضورٍ للدينى فى المجال العام أدى إلى:
ـ صراع حول من يمثله.
ـ الجميع يوظفه ويستخدمه فى المجال العام.
ـ فوضى شديدة فى علاقة الدينى بالمجال العام.
أسباب هذا الحضور المتصاعد:
● تآكل وتراجع الدولة المصرية التى كانت فى ظل المشروع الناصرى المطلق الذى يحتمى به الجميع اقتصاديا واجتماعيا، بالإضافة إلى الأزمة المجتمعية المصرية.
● تداعيات ما بعد 11 سبتمبر وما ارتبط بها من أجندات مثل: الحرب على الإرهاب الذى يقصد به حقيقة الإرهاب ذا الإسناد الدينى، وإعادة هيكلة الحقل الدينى، والصراع حول من يمثل الإسلام المعتدل، وتجديد الخطاب الدينى.. هذه مجرد أمثلة فقط. ويرتبط بهذه النقطة، قضايا الاحتكاك الثقافى بين الغرب والعالم الاسلامى (الحجاب ـ المآذن ـ الرسوم المسيئة للرسول (ص)…….)
● عولمة الظاهرة الدينية خاصة مع الأدوات الإعلامية التى تتجاوز الحدود القطرية من إنترنت وفضائيات.
● (حوسلة) الدين أو «بزنسة» الدين أى تحويل المنتج الدينى إلى سلعة تباع وتشترى لأن عليها طلبا متزايدا.
2 ـ استمرار الخلط بين الدعوة والسياسة فى التنظيم والخطاب والرموز والمؤسسات، ولم يعد هذا الخلط قاصرا على جماعة الإخوان المسلمين التى قبلت منذ منتصف الثمانينيات الدخول المتزايد إلى ساحة العمل السياسى، ولكن امتد إلى مجمل الحركات السياسية الإسلامية التى قبلت المشاركة فى العمل السياسى بعد أن كانت ترفضه (الدعوة السلفية) أو دخلت ساحة السياسة التى كانت تُمنع منه (الجماعة الإسلامية).
3 ـ على الرغم من الخلط بين الدعوة/ الدينى والسياسة إلا أنه يلاحظ بداية تمييز عضوى ووظيفى بين الأثنين يتجلى فى بروز:
ـ نوعان من الخطاب والممارسة فى الدعوة السلفية: خطاب دينى يمثله رموز ومشايخ الدعوة السلفية، وخطاب سياسى يمثله حزب النور.
الأول يتعامل مع السياسة بمنطق الفتوى، أما الثانى فيدرك التحديات الواقعية التى يواجهها ويسعى جاهدا للاستجابة لها عبر إنتاج خطابات وممارسات سياسية.
ـ أما بالنسبة للإخوان فيعدون أنفسهم لمرحلة الحكم بما يتطلبه من ضرورة الإنتقال من المبادئ العامة للبرامج والتصورات التفصيلية بما يستدعيه ذلك من ضرورة الانتقال من خطابات الهوية إلى الخطابات السياسية وهذا يجرنا إلى الملاحظة الرابعة.
4 ـ ما يجب أن نؤكد عليه فى هذا الصدد أن ثورات الربيع العربى تتجاوز الأيديولوجى إلى خطاب المعاش الذى يعنى أن معيار الشرعية السياسية هو القدرة على تقديم حلول واقعية للتحديات الحقيقية التى يطلبها المواطن وهى: البطالة والصحة والتعليم...إلخ.
وتدرك الحركات السياسية الإسلامية هذه الحقيقة جيدا وأمام ناظريها تجربة حزب العدالة والتنمية التركى الذى سعى على مدار عشر سنوات لتحقيق إنجاز فى الملفات الإجتماعية والاقتصادية تمنح له الشرعية بما يستطيع منها أن يحقق مشروعه.
هنا ملاحظة جديرة بالتأمل وهى أن التعددية السياسية الحزبية الإسلامية بما تمثله من اختيارات سياسية وبرامج اقتصادية واجتماعية متنوعة، وتعبير عن طبقات اجتماعية متباينة (الإخوان أقرب للطبقة الوسطى، والسلفيون أقرب للطبقات الأدنى، وحزب البناء والتنمية ـ حزب الجماعة الإسلامية ـ أقرب للتعبير عن الصعيد الفقير المهمش تنمويا بالاضافة إلى حزب الوسط والاصالة....إلخ من أحزاب إسلامية). كل هذا التنوع يعطى قوة دفع وإبراز للنسبى (السياسة) على حساب المطلق فى الخطاب الدينى.
5 ـ وأخيرا وليس آخرا، فقد شهدنا بروز مؤسسة الأزهر فى المجال السياسى ومحاولة لاستعادة دورها الوطنى فى هذا الصدد عبر إصدار عدد من الوثائق السياسية المهمة التى تتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة والحريات العامة بالإضافة إلى عدد من الوثائق والبيانات التى تدعم الحراك الثورى العربى.
أما الكنيسة الارثوذكسية فيلاحظ تراجع هيمنتها السياسية على مجمل الحراك السياسى المسيحى فى مصر، حيث شهدنا مزيدا من الحضور المسيحى / المدنى فى المجال العام.
●●●
الكنيسة الأرثوذكسية تعيش مرحلة ما بعد البابا شنودة إلا أنها كسائر المؤسسات المسيحية العربية مرتبكة فى التعامل مع الصيغ الجديدة التى باتت تتشكل كما أن نمط التحالف القديم مع أجهزة الدولة العميقة فى مصر قد سقط، وتسعى جاهدة لبناء نمط تحالفات جديد يقوم فى جزء منه على تفاهم مع الإسلاميين وخاصة الإخوان، القوة الصاعدة الجديدة فى النظام السياسى المصرى.