على مدى شهر مر بالحياة المجتمعية المصرية ثلاث حوادث لها ارتباط وثيق بمدى توافر حقوق الإنسان فى مصر. وسوف أسرد عنها وفقا لتواريخ حدوثها من الأحدث إلى الأقدم، فى محاولة لقراءة الواقع المصرى الحالى، ومدى تأثير غياب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وعدم التمكين منها على الحياة.
أولى هذه الحوادث هى إشعال شاب سكندرى للنار فى نفسه مكررا لتجربة بوعزيزى التونسية، والتى كانت الشعلة التى أفسحت الطريق برحابة لنجاح الثورة التونسية. وعلى الرغم من تناول بعض المواقع الإلكترونية لهذا الحادث الأليم بطريقة لا تتوافق مع أوليات التناول الإعلامى، ولا مع أهمية الحدث، حيث بدأ الترويج لكون هذا الشاب مسجل خطر ضمن كشوف المسجلين فى وزارة الداخلية، وبعيدا عن الخوض فى هذا التسجيل، فإنه فى جميع الحالات حتى ولو كان من أعتى المجرمين لا يحرمه من حقوقه كإنسان، إضافة إلى حقوقه كمواطن مصرى، وقد كان الأحرى والأجدر بهذه المواقع أن تبحث فى أسباب فعله، ورصد محاولات علاجية لعدم إقدام غيره على ذلك.
وثانى هذه الحوادث هو حديث سائق التوك توك، وكيف أنه قد رصد أمراضا مجتمعية، لم تجد الاهتمام الكافى إلا بمحاولة التجريح البائسة فى شخص المتحدث كما قال «خريج التوك توك» إذ تناولته هذه الوسائل المترصدة بكونه إخوانى النزعة، وما إلى ذلك من أوصاف فى محاولة لتجريح شهادته التى أذاعها التليفزيون الرسمى. ولم يدر بخلد أصحاب هذه الوصفات العبثية أن هذه المحاولات لا تقلل من قيمة ما أدلى به هذا المواطن البسيط، والذى عبر عن أمراض مجتمعية حرية بالبحث عن سبل لعلاجها.
وثالث هذه المواجع هو فجيعة قارب رشيد وموت ما يفوق عن مائتى شخص ما بين طفل وشاب وامرأة، وكان أكثر ما يؤلم فيها هو اعتذار أحد الناجين لأسرته التى فقدها من أنه كان يسعى لمحاولة الحصول على فرصة كريمة للحياة، وهى الجملة التى لخصت كل أسباب مجازفة هؤلاء فى رحلات يعلم جميع من يقدمون عليها أن الموت هو أول الاحتمالات لهذه الرحلة.
فماذا يعنى تكرار مثل هذه الحوادث وفى فترة زمنية وجيزة؟
إن العين الراصدة بصدق والباحثة عن الحقيقة، والهادفة إلى مصلحة هذا الوطن ومصلحة ذويه، يجب أن تتطرق للبحث عن أسباب هذه الحوادث المجتمعية الخطيرة، والتى أزعم أنها لو حدثت بإحدى الدول الأوروبية لاستقالت حكومات كاملة كنتيجة مؤكدة لها، بخلاف البحث الحقيقى عن الأسباب وطرق العلاج، وليس الهروب إلى أودية بعيدة بالفاعلين كالتخوين، والعمالة، وانعدام الانتماء.
وأزعم أن هذه الحالات مؤشر ذو أثر بعيد على انهيار منظومة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فى البلاد، فلو كانت السلطة قد سعت أو تحركت نحو تحقيق ــ ولو بنسب بسيطة ــ بعض من هذه الحقوق المتمثلة فى المسكن والمأكل والتغذية والصحة والعلاج والتعليم، ولو عايش المواطن البسيط ــ جزء ولو بسيط ــ تحقيق أى من هذه الحقوق فى حياته، أو شعر ببعض التطورات فى البنية المجتمعية الشاملة لمجموعة هذه الحقوق، لما تكررت مثل هذه الأفعال. ولو استجابت السلطات للنداءات المجتمعية لبحث هذه الظواهر، وصولا لنتائج تفيد المجتمع، ومن ثم تعود بالأثر الجيد على السلطة الحاكمة، ولو تخلت الدولة عن معالجة جميع المشكلات بالبعد الأمنى فقط، ولكن وللأسف تمر الحادثة تلو الأخرى ولا نجد إلا ما ألفناه من أقاويل وطرق تبعد كل البعد عن أى محاولة علاجية أو وقائية.
فهل تستفيق السلطات من هذه الأزمات المتكررة وتسعى إلى إيجاد حلول مجتمعية فعلية، ولا تتوقف عند حدود التصريحات المخيبة للآمال والتى ترمى باللائمة على الضحايا حتى تُبعد الشبهة الجنائية الحقيقية عن السلطة بحسبها بتصرفاتها تجاه أزمات المجتمع العديدة هى المتسبب الحقيقى لمثل هذه الرحلات، أم أنها ستسعى فى نهجها المتكرر إلى تنامى أكبر لأشجار الحزن فى كل الربوع.
إن منظومة الحقوق ليست ترفا أو اصطلاحا أجوف، وإنما هى تعبير فى لغة معينة سواء كانت اتفاقيات أو عهود أو حتى قوانين داخلية عن احتياجات حقيقية وحقوق لمواطنين ولدوا فى هذا البلد، وبالتالى هم أصحابها، وحتى لا يتم القول بأن هذه المفردات غربية وتختلف بالكلية أو جزئيا عن الواقع المصرى الذى له خصوصياته، فللأسف إن كان ذلك القول يصدق على نوعية معينة من مفردات حقوق الإنسان، فإنها بالقطع تخرج خارج إطار ونطاق مجموعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.