فضحت أحداث السابع من أكتوبر 2023، وتداعياتها، فقدان إدارة بايدن، قدرتها على لجم غطرسة نتنياهو. سواء من خلال توظيف آلية وقف مبيعات ومعونات الأسلحة الأمريكية المتدفقة لإسرائيل أو عبر حجب الدعم الدبلوماسى لها فى مختلف المحافل الدولية.
تدريجيًا، تتآكل ثقة البيت الأبيض فى حكومة نتنياهو، بشأن خططها العسكرية وتحركاتها الدبلوماسية المتعلقة بحروبها، المتعددة الجبهات، فى الشرق الأوسط. فلقد دعا رئيس الوزراء الإسرائيلى السابق نفتالى بينيت، لاستغلال أعظم فرصة، تصادفها بلاده منذ خمسين عامًا، لتغيير وجه الشرق الأوسط، بعد انكشاف إيران استراتيجيًا، إثر تقويض حزب الله وحركة حماس. ومؤخرًا، فجعت إدارة، بايدن بعمليات عسكرية أو استخباراتية إسرائيلية، لم يتم التشاور معها، حول بعضها، أو إخطارها بها مسبقًا، بوقت كافٍ. الأمر، الذى اعتبرته واشنطن تقويضًا للثقة المتبادلة، كونه لا يتيح للبنتاجون اتخاذ التدابير الكفيلة بالدفاع عن إسرائيل أو حماية الأصول العسكرية الأمريكية فى المنطقة.
بعد شهرين من الجفاء، جاءت المهاتفة الأولى بين بايدن ونتنياهو، عقب إلغاء الأخير زيارة وزير دفاعه، جالانت، إلى واشنطن. وعلى مدى 30 دقيقة، ناقش الرجلان الرد الإسرائيلى المتوقع ضد إيران. وبينما شدد بايدن على تحرى التنسيق والشفافية بين واشنطن وإسرائيل؛ أعلنت الأخيرة، أن هجومها على إيران سيكون قاتلًا ودقيقًا ومفاجئًا. وجرت المكالمة وسط توتر متنامٍ حول توقيت وحدود ذلك الرد. وفى كتابه الأحدث، المعنون: «حرب»، رصد الصحفى، بوب وودوارد، تآكل الثقة بين بايدن ونتنياهو، جراء تجاهل الأخير دعوات أمريكية لوقف العمليات ضد حماس وحزب الله. كما ألمح إلى الفجوة بين مقاربة بايدن، التى تتبنى دبلوماسية تفاوضية عاجزة عن إنهاء الحروب. واستراتيجية، نتنياهو، التى تعتمد التصعيد العسكرى، لتصفية القضية الفلسطينية، وإنهاء حرب استنزاف، أرهقتها بها إيران وحلفاؤها، طيلة عقود.
•••
تمخض تفاقم كلفة التخاذل الأمريكى إزاء الصلف الإسرائيلى، على مشارف الاستحقاق الرئاسى المرتقب، عن دفع، بايدن، الذى يكابد ضغوطًا من ناشطين ليبراليين ديمقراطيين لكبح جماح نتنياهو، باتجاه محاولة تصحيح ذلك الخلل، قدر المستطاع. فعبر سياسة، الترغيب والترهيب، انبرى، بايدن، فى ترويض، نتنياهو، للحيلولة دون انفجار صراع إقليمى أوسع نطاقًا، وحث إسرائيل على معالجة الوضع الإنسانى المأساوى بقطاع غزة. ففيما يتصل بالملف الفلسطينى، حذره من احتمال تأثر المساعدات العسكرية لإسرائيل، بموجب القانون الأمريكى، فى حال لم يسجَّل تحسُّنا فى تأمين دخول 350 شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية، يوميًا كحد أدنى، إلى قطاع غزة، فى غضون ثلاثين يومًا، ينتهى خلالها الماراثون الرئاسى. وعبثا، يحاول بايدن استثمار مقتل يحيى السنوار، زعيم حركة حماس، لحمل نتنياهو على إنهاء الحرب فى غزة.
أما بخصوص الرد الإسرائيلى على الهجوم الصاروخى الإيرانى، الذى تريده واشنطن مدروسًا ومتناسبًا. بما لا يشعل حربًا إقليمية أو مواجهة إسرائيلية - إيرانية شاملة، تضطر واشنطن إلى التدخل المباشر، على مشارف سباقها الرئاسى؛ سواء لحماية أصولها العسكرية بالمنطقة، أو للدفاع عن إسرائيل. فيرنو بايدن إلى حمل نتنياهو، على تجنب استهداف البنية الحيوية للطاقة والمنشآت النووية فى إيران. وتوخيًا لذلك، جاءت زيارة الجنرال، إريك كوريلا، مسئول القيادة المركزية، المعنية بالعمليات العسكرية الأمريكية بالشرق الأوسط، إلى إسرائيل. وبعدما لوحت واشنطن بالعدول عن المساعدة فى صد أى هجوم إيرانى جديد ضد إسرائيل، حالة إصرار الأخيرة على إخفاء تفاصيل خططها؛ جدد مسئولون أمريكيون التزام بلادهم الدفاع عنها، ومواصلة دعمها عسكريًا. كذلك، عرضت إدارة، بايدن، على إسرائيل، «حزمة تعويضات»، حال امتثالها للتوجيهات الأمريكية بهذا الصدد. تشمل ضمانات كاملة للحماية الدبلوماسية الشاملة، مزيدًا من صفقات الأسلحة. ومصداقًا لذلك، أمنت واشنطن إسرائيل بنشر منظومة ثاد الأمريكية المضادة للصواريخ، رفقة 100 فنى أمريكى يتولون تشغيلها.
ما إن قرر بايدن ترغيب نتنياهو، عبر سد ثغرات منظوماته للدفاع الجوى، حتى تغيرت لغة الخطاب الرسمى الإسرائيلى بشأن استهداف إيران. فقد أبلغ نتنياهو بايدن، خلال المهاتفة، باعتزام إسرائيل تضييق نطاق ردها على الهجوم الإيرانى، الذى استهدفها مطلع الشهر الجارى. حيث تنتوى ضرب أهداف عسكرية واستخباراتية دون المنشآت النووية أو النفطية الإيرانية. وسيكون الرد الإسرائيلى محسوبًا، لتجنب التأثير السياسى فى السباق الرئاسى الأمريكى. ومن ثم، اعتبرت أوساط أمريكية أن نتنياهو أظهر، خلال المهاتفة، مرونة افتقدتها مباحثات سابقة.
• • •
لطالما انتقد مراقبون إسرائيليون تبعية بلادهم للسياسة الأمريكية، منددين بمحاولات فرض الإملاءات على نتنياهو، بشأن مهاجمة إيران. وطالب مسئول إسرائيلى إدارة بايدن، بالتعاطى مع بلاده كدولة ذات سيادة، لا ينبغى لواشنطن أن تملى إرادتها عليها بهذا الخصوص. بدوره لم يفت، نتنياهو، الفرصة، لإظهار نفسه منافحًا عن استقلالية القرار الاستراتيجى الإسرائيلى فى مواجهة الوصاية الأمريكية. وإبراز قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها بنفسها، بما يعزز مكانتها الإقليمية، ودورها فى الاستراتيجية الأمريكية. وأعلن مكتبه، فى بيان، أن إسرائيل ستضع بحسبانها نصائح واشنطن، لكنها ستقرر ردها على الهجوم الصاروخى الإيرانى، بناء على «مصلحتها الوطنية»، دونما ترقب لضوء أخضر من واشنطن.
عقب رحيل، السنوار، أعلن، نتنياهو، «تصفية الحساب» مع زعيم حماس؛ لكنه شدد على مواصلة حرب غزة حتى عودة الأسرى الإسرائيليين. وبعدما أيد بايدن حق إسرائيل فى تصفية قيادات الحركة، تعهد التباحث مع، نتنياهو، لإنهاء هذه الحرب مرة واحدة وإلى الأبد. وبينما توشك ولايته على الانقضاء، تنحسر فرص نجاح، بايدن، فى إخضاع، نتنياهو، الذى يؤثر الانتظار واستغلال الظروف، حتى تنصيب الرئيس الأمريكى المنتخب. ومن ثم، أعلن استئناف حرب غزة. وبينما أعلن، بايدن، خلال زيارته إلى ألمانيا، مؤخرًا، أن لديه علمًا بموعد وكيفية الرد الإسرائيلى على إيران، خرج وزير الطاقة الإسرائيلى، ليستبعد أية خطوط حمر على استهداف إسرائيل أى شخص أو أية منشأة داخل إيران، بما فيها الطاقية والنووية.
إلى حد بعيد، نجح، نتنياهو، نجح فى حرمان، بايدن، من استخدام نفوذ واشنطن عليه، عبر حشد الفعاليات المؤيدة لإسرائيل داخل الولايات المتحدة، ضد محاولات إدارة بايدن، كبح جماحه. محذرًا من أن أى تردد، من لدن الإدارة الأمريكية، فى توفير الدعم العسكرى أو الدبلوماسى، سيكبدها تكلفة سياسية باهظة. وقد حال هذا التكتيك دون استخدام بايدن نفوذ واشنطن، باعتبارها الراعى الرسمى لإسرائيل، للجم تجاوزات نتنياهو، حيال غزة، الضفة، لبنان، وإيران.
• • •
تتفق أوساط أمريكية ودولية على فشل بايدن، فى توظيف نفوذ بلاده، للجم سياسات، نتنياهو، التصعيدية فى المنطقة. ما جعله سببًا فى تأجيج الحرب، عبر مواصلة تزويد إسرائيل بالأسلحة للعدوان على غزة، لبنان، وإيران. وهو ما يقوض مكانة واشنطن، كما ينفر حلفاءها منها، ويشجع قوى عالمية أخرى، مثل الصين وروسيا، على شغل الفراغ الأمريكى فى الإقليم. علاوة على توريط واشنطن عسكريًا، وعلى نحو معمق، فى صراعات الشرق الأوسط المرشحة للتصاعد. فلقد حذر الجنرال، ديفيد باتريوس، القائد السابق للقوات الأمريكية بأفغانستان، من أن تعاظم الغضب العربى جراء سياسة واشنطن إزاء القضية الفلسطينية، سيؤثر سلبًا على قوة الشراكة الأمريكية مع شعوب وحكومات المنطقة. فيما ستستغل الجماعات المتطرفة ذلك الغضب لمضاعفة الحشد والتعبئة لمصلحتها. كما سيخول استمرار الصراع العربى - الإسرائيلى، إيران مواصلة تعميق نفوذها فى العالم العربى. وبعدما أبدى أسفه على أفول تأثير بايدن على نتنياهو، انتقد عالم السياسة الأمريكى إيان بريمر، نهج بايدن، المرتكن على بناء تفاهمات مع نتنياهو، تكفل خفض التصعيد وإنهاء الحرب. حيث يتجاهل نهج سابقيه، ابتداء بالرئيس الـ36، ليندون جونسون، لجهة حجب الدعم الاقتصادى والعسكرى عن إسرائيل أو التهديد بتجميده. لحملها على الالتزام بالخطوط الحمر، ضمانًا لحماية المصالح الاستراتيجية الأمريكية.