مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة».. فى ظلال يافا «بلد الغريب» - بوابة الشروق
الجمعة 20 ديسمبر 2024 8:49 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة».. فى ظلال يافا «بلد الغريب»

نبيل شعث
نبيل شعث
عرض ــ محمد نبيل حلمى:
نشر في: الأربعاء 12 أكتوبر 2016 - 10:29 ص | آخر تحديث: الأربعاء 12 أكتوبر 2016 - 10:29 ص

• والدى لم يكن مُقتنعًا بإنجابى: من الذى يريد إنجاب أولاد بلا وطن
• تعثرت ولادتى ثلاثة أيام.. والطبيب حضر بعد تصريح من القوات البريطانية وقيادة الثورة الفلسطينية
• أبى كان العائل الوحيد لأسرته قبل أن يكمل 16 عامًا.. وتفوقه مكنه من الدراسة بالجامعة الأمريكية فى بيروت
• والدى خسر بعثة للدراسة فى لندن بسبب مرضه.. فأقسم على تعويضها بتعليم أبنائه وأن يحصل أكبرهم على ثلاث درجات دكتوراه
• أمى طلبت الحديث مع والدى بشكل منفرد عندما تقدم لخطبتها.. فوافق جدى بشروط
• والدتى استسمحت عائلتها أن تستمر خطبتها عدة أشهر لمناقشة أبى فى أفكاره وتطلعاته
• العروسان اتفقا على إنجاب قائد سياسى وطبيب وعالم دين وبنات مثقفات.. وولد «أزعر» شقى يحميهم جميعًا
• ميزانية شهر العسل فى مصر نفدت.. فجرب العروسان «الشعبطة فى الترام» وساندوتشات «الفول والطعمية»
• زوجا خالتىّ كانا يمتلكلان سينما الحمراء فى يافا.. وزارها يوسف وهبى وأمينة رزق وغنت فيها أم كلثوم
• أبى كان مديرًا لمدرسة العامرية صاحبة النصيب الوافر فى مظاهرات 1946
• حكومة الانتداب اتهمت والدى بالتحريض على الاحتجاجات لمشاركتى فيها وخفضوا درجته الوظيفية.. فقرر الاستقالة

 

رحلة طويلة من العمل والنضال والانتصارات والانكسارات، التى مرت بها فسطين وفى قلب تفاعلاتها كان أبناؤها ــ ولا يزالون ــ يصنعون التاريخ، ومن بين أبرز من شاركوا فى صفحات القضية المركزية للعرب، يبزغ اسم الدكتور نبيل شعث، الذى يشغل حاليًا موقع مفوض العلاقات الدولية فى حركة التحرير الوطنى الفلسطينى «فتح»، وهو صاحب التاريخ العريض مكافحًا وقائدًا ومفاوضًا فى مسيرة تمتد وتتواصل منذ نحو خمسين عامًا، وتنشر «الشروق» عبر سلسلة من 6 حلقات عرضًا للجزء الأول من السيرة الذاتية لشعث التى صدرت عن «دار الشروق» تحت عنوان: (حياتى.. من النكبة إلى الثورة)، وتجمع بين المذكرات الشخصية والرواية التاريخية، ويغطى الفترة بين بداية الغزو الصهيونى لفلسطين، وفترة النكبة، وملحمة بيروت فى العام 1982، والحروب العربية الإسرائيلية، وانطلاقة الثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح، ونشأة منظمة التحرير، ومرحلتَى الأردن ولبنان فى تاريخ الحركة.
من السطر الأول فى مقدمة سيرته يحدد الدكتور شعث، عهدًا يلتزم به فى كتابته؛ فالرجل الذى خَبِرَ دروب وتفاصيل وخفايا النضال الفلسطينى، يضع نصب عينيه مهمة أن يكشف لأبناء شعبه ولكل المهتمين بقضاياه وقضايا أمتنا العربية بعضًا مما أتاحه له مشوار العمر الطويل من خبايا وحقائق وأحداث عاشها وانغمس فيها تماما طوال ما يزيد على نصف القرن، كلها تتعلق بقضيةٍ هى فى قلب كل عربى وفى مقدمة كل الاهتمامات، وتشكل أيضًا ملحمة إنسانية تزخر بالمآسى والبطولات التى يعجز عن وصفها أعظم الأدباء.
ويشرح شعث فى مقدمة كتابه: «لقد قدّر لى أن أكلّف بمسئوليات ومناصب ساهمت فى تحديد المسار وأثّرت فى رحلة شعب ظل، حتى النهاية، هو الملهم والقائد وصانع التاريخ. ولذلك أصبح من واجبى أن أُطلع أبناء شعبى وأمتى وكل من عرفت عبر رحلة العمر الطويلة على تفصيلات الأيام واللحظات التى صاغت حياتى، والتى لا أريدها أن تمضى من دون توثيق أو تدوين، بما فيها من ابتسام أو عبوس، وابتهاج أو ألم ومعاناة، مرورًا بعشرات الأشخاص الذين ساهموا أيضًا فى تلك الصياغة وفى تفصيلات الصورة».

أجمل أيام العمر
كان يوم دخولى إلى أرض الوطن فى 19 آيار (مايو) 1994 يومًا من أجمل أيام العُمر، بل هو أجملها، تجسدت فيه رومانسية العودة التى بقيت فى قلبى وفكرى منذ غادرنا يافا إلى مصر فى عام 1947، وعليها ربَّيت أولادى. كان ابناى «على» و«رامى» يتصوران أن برتقال غزة وثمار البوملى (ثمرة كبيرة من فصيلة الحمضيات) الخضراء الكبيرة من أريحا هى من ثمار الجنة، وكانت ابنتى «رندا» تتصور أن الزيتون وزيت الزيتون اللذين كانا يأتيانا من الضفة أو من الجليل الأعلى هما أيضًا من نتاج الجنة. عندما عبرنا خط الحدود إلى رفح الفلسطينية أحسست بنسيم مُنعش لم أعتده من قبل يداعب وجهى، وبعبق أزهار البرتقال والياسمين يملأ صدرى بالفرحة والحيوية والرضا. كان طقس آيار (مايو) رائعًا، وكان فى الوطن أروع.
حجز لى اللواء نصر يوسف غرفة إلى جانب غرفته فى فندق آدم على شاطئ بحر غزة، ولم أستخدمها إلا سويعات بين الفجر وصلاة العيد، لم ينم أحد ليلتها على أى حال. ظل رامى يطوف غزة ومعسكراتها فى أول دورية عسكرية فلسطينية فى غزة المُحررة. كانت تلك هى المرة الأولى التى يرى فيها أبناء غزة سيارات عسكرية فلسطينية. ظن المحتفلون فى الشوارع أنها سيارات إسرائيلية، وعندما تبينوا أنها تحمل الأعلام الفلسطينية انطلقت زغاريد الفرح مُرحبة بقدومها.

الجذور
ولِدْت فى مدينة صفد العريقة يوم 9 من آب (أغسطس) عام 1938 لأب فلسطينى من غزة وأم لبنانية من بيروت. تقع صفد فى الزاوية الشمالية الشرقية لفلسطين، قرب الحدود السورية ــ اللبنانية، وتطل على بحيرة طبرية. صادف يوم ولادتى واحدًا من أيام التصعيد للثورة الفلسطينية الكبرى (1936 ـ 1939) والتى عمّت كل مدن وقرى فلسطين، خصوصا فى صفد التى تحررت، وظلت مدينة محررة بأيدى الثوار، عصيّة على جيش الاحتلال البريطانى لبضعة أسابيع.
تعسرت ولادتى وفشلت القابلات فى عملهن مدة ثلاثة أيام، عانت فيها أمى من آلام الولادة. كان إحضار الطبيب المختص من مدينة طبريا، القريبة من صفد، أمرًا بالغ الصعوبة، تطلّب الحصول على تصاريح من القوات البريطانية، ومن قيادة الثورة. ووصل الطبيب بعد ولادتى بساعات! قالوا لى إنى لم أصرخ عندما ولدت شأن بقية الأطفال، وإن القابلة التى قامت بتوليدى ضربتنى عدة مرات حتى صرخت.
ظننت، فى صباى أن ذلك دليل شجاعة مبكرة، ولكن الحقيقة أننى ولدت مغمى علىّ بسبب طول فترة الطلق والولادة، وكان لابد من إنعاشى، وقد ساهم طبيب طبريا فى ذلك. وطمأن الأهل بأننى حى أرزق وفى صحة جيدة.

على رشيد شعث
والدى ومثلى الأعلى إلى يومنا هذا، كان شخصية فذة ونادرة. كان سابقا لزمانه، وكان وطنيًّا فلسطينيًّا ومعلمًا ورائدًا لجيل فلسطينى كامل تتلمذ على يديه وعلى يدى أمثاله من رواد العلم والثقافة والتنوير.
ولد على رشيد شعث فى غزة فى الأول من تشرين الثانى (نوفمبر) 1908 قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بست سنوات.
كانت وفاة جدى قبل أن يكمل والدى دراسته الثانوية، كارثة للعائلة، ثم كانت وفاة الأخ الأكبر رشدى، واختفاء أخيه الثانى توفيق، فأصبح والدى هو العائل الوحيد للأسرة قبل أن يكمل السادسة عشرة من عمره. لم يبق من تركة والده إلا الشىء القليل حيث «أكل» شركاؤه حقوقه، إذ كانت لديهم كل الحسابات والأوراق، وعاشت جدتى أرملة رشيد شعث وبناته اليتيمات فى شظف العيش.
تخرج الوالد فى المدرسة الرشيدية بالقدس وعمره ست عشرة سنة وبضعة أشهر وكان من المتفوقين، ولكنه، لصغر سنه، لم يحصل على بعثة للدراسة فى الجامعة الأمريكية فى بيروت. ولأنه كان فى حاجة للمال لتأمين عائلته فقد نجح فى الحصول على وظيفة معلم فى مدرسة عكا واستمر فى عمله هذا لمدة سنتين. فى عام 1926 عندما بلغ الثامنة عشرة من عمره أرسل فى بعثة دراسية للجامعة الأمريكية فى بيروت فاصطحب والدته وأخواته غير المتزوجات، وأنفق عليهن من منحته الدراسية الضئيلة.
تخرج على شعث فى الجامعة الأمريكية سنة 1929، وكان بحثه للتخرج فى قسم الكيمياء عن استخلاص هرمون الغدة الدرقية من غدد الثيران، وكانت تلك التجربة الثانية الناجحة من نوعها فى العالم فى ذلك المجال. عُرض عليه الابتعاث إلى لندن فطار فرحًا، ولكنه خسر البعثة عندما اتضح من الكشف الطبى أنه مصاب بالتراخوما، وكان ذلك المرض معديا يحتاج وقتًا لعلاجه ويترك آثارا فى العين. «طارت» المنحة الدراسية واضطر للعودة إلى فلسطين. أقسم يومها أنه سيعوض الدكتوراه الضائعة بتعليم أولاده، وإنه لن يرضى بدكتوراه واحدة فقط لابنه الأكبر، بل باثنتين أو ثلاث. عِشت صباى تحت ضغط أحلامه وإن نجحت فى النهاية فى تحقيق جزء منها.

أمى وعائلتها
ولدت سميحة فى أول تشرين الثانى (نوفمبر) 1913 فى بيروت، لمعلم لبنانى اسمه أحمد التنير (أبوالعبد) من عائلة التنير، إحدى العائلات البيروتية القديمة والأصيلة، التى تعلَّم أبناؤها وعمل أكثرهم فى الحكومة والجيش اللبنانى.
بنات أحمد التنير اللبنانيات؛ خالاتى رفيقة وأميرة ومكرم ـ وأمى سميحة بعد زواجها من أبى ــ تزوجن جميعهن من فلسطينيين وعشن فى فلسطين.
عندما انطلق الإضراب الكبير فى فلسطين، واشتعلت الثورة، صممت سميحة على زيارة أختيها فى يافا لكى تشارك فى ذلك الحدث العظيم. وافق جدى على سفرها، رغم خوفه من مخاطر الثورة، لكى «تغير جو» وتخرج من وضعها النفسى، وتعود الزهرة المتفتحة التى كانت ملء العيون والأبصار قبل مرضها. انتهى الإضراب العظيم فى اليوم التالى لوصولها إلى يافا، ولكنها بقيت فى بيت أختها لعدة شهور، فالثورة لم تنتهِ. كانت يافا مدينة جميلة، يأتيها الغرباء فيجدون فيها الترحيب والمودة، ولذلك سميت ببلد الغريب أو «أم الغريب». أحبت والدتى يافا، وتمنت لو تسكنها، شأنها شأن أختيها الكبريين.

لقاء منفرد
زيارة أمى لفلسطين أدت إلى تعرفها على أبى. لم تكن أمى غريبة عن فلسطين، فقد عاشت فى القدس طفلة صغيرة أثناء الحرب العالمية الأولى، حين كان والدها مجندًا فى الجيش العثمانى، وكانت فلسطين دائما جزءًا لا يتجزأ من حديث العائلة اليومى فى بيروت. ساق القدر إليها وفد نساء عائلة شعث، ووجدت ما سمعته عن على شعث مشجعا للإقدام على اتخاذ الخطوة التالية، فطلبت هى أيضًا لقاءه وحدهما فى بيتها ببيروت، بعد أن تقدم على شعث لوالدها رسميا طالبًا يدها.
كانت بداية المشهد تقليدية بمعيار ذلك الزمان. ولكن طلب على وسميحة اللقاء المنفرد كان بعيدًا عن التقاليد. أجّل جدى قراره إلى أن يأتى على شعث إلى بيروت، ويطلب يد والدتى. وقد تم اللقاء، وأعجب جدى بعلى شعث إعجابًا كبيرًا، وقرر الموافقة على طلب اللقاء المنفرد شريطة أن يبقى باب غرفة «الصالون» ــ حيث يلتقى الخطيبان ــ مفتوحًا طيلة الوقت. ووافق على وسميحة على الشرط.
كان اللقاء إيجابيًّا للغاية، سعد هو بكل ما رآه وسمعه، وقال، بوصفه معلما، لوالدته بعد ذلك: «لقد نجحت سميحة فى الامتحان»! طلبت سميحة من والدها طلبًا جديدًا، وهو أن تعقد الخطبة وتستمر لعدة شهور، قبل عقد القران، يُسمح لها فيها بالمراسلة مع الخطيب للمزيد من التعارف، وتبادل الأسئلة، ومناقشة الأفكار والتطلعات، وكان ذلك أمرًا غير معتاد فى ذلك الزمان. وافق جدى بعد المداولة، على طلب سميحة، شريطة أن تسمح له بالاطلاع على الرسائل المتبادلة، وألا تطول مدة الخطبة عن ستة أشهر. قبلت سميحة وخطيبها بالشروط وتكاتب الخطيبان فى كل ما رأياه مهما، ونشأت بينهما صداقة ومودة، وتم الاتفاق على الزواج.

شهر العسل
بدأ شهر العسل فى القاهرة فخمًا فوق العادة. أراد والدى أن يبهرها بالفنادق والمطاعم الفاخرة والمسارح والسينما والانتقال بالتاكسى من مكان إلى مكان. ثم أخذها إلى الإسكندرية حيث كانت تجرى احتفالات تنصيب الملك فاروق، وأقاما فى فندق سان ستيفانو الفاخر وقتها. وفى ليلة سهرا فيها فى مطعم الشاطبى على الشاطئ كان والدى ساهمًا مهمومًا بعد أن وصلته أخبار مقلقة من الوطن. حاولت الوالدة محادثته دون جدوى. عادت إلى تجربتهما القديمة فى المكاتبة، وبدأت الكتابة له على قائمة الطعام التى احتفظت بها أمى وتركتها لنا.
• كم طفلا تريدنا أن ننجب يا على؟
ـ لا أريد أطفالًا!
• لماذا؟ هل هناك عائق لا أعرفه؟
ـ ليس هناك أى عائق.
• لماذا إذن هذا الرفض؟
ـ يا سميحة «تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب فى ازدياد» ومن ذا الذى يريد إنجاب أولاد بلا وطن!
• أنت الآن تعبان «ومقريف» لذلك لا ترى الحياة إلا تعبا وشقاء، أما أنا فأرى غير ذلك، أراها شيئا جميلا بقربك.
ـ ما هو أملكِ فى هذه الحياة؟
• أريد حياة بسيطة جد البساطة. كل أملى أن أرزق طفلًا ذكيًّا كأبيه، ونعيش أنا وأنت به بأحسن حال. الرزق موفور والصحة جيدة. هذه هى السعادة كلها.
ـ وما ذنب هذا المسكين حتى نحضره لهذه الحياة الشقية؟ وهل من الرحمة أن نجلب الشقاء ونتمناه لغيرنا؟ هل يعرف طعم السعادة أولئك الملايين من الأشقياء؟.. نحن الأشقياء يا سميحة، نحن الذين لا نعرف لنا وطنًا ولا مقرًّا. تُرى ماذا يجد هذا الطفل عندما يشب، هل تتأكدين؟ كلا. هل سيعرف له وطنا؟ هل سيكون له من العزة القومية ما سيحفزه للعمل؟ أم يبقى عبدًا أو يرحل إلى الصحراء؟ ثم من يضمن له وجودنا نحن حتى نرعاه ونوفر له هذا المستقبل دون أن نتركه فى منتصف الطريق كالتائه فى بيداء لا يعرف لها أولًا ولا آخر. تعرفين المعرّى رحمه الله، أوَ ليس هو القائل:
«هذا ما جناه أبى عليَّ، وما جنيت على أحد!».
كانت ليلة والدتى صعبة، ولكن تلك كانت مخاوف والدى وأبناء جيله. حاولت الوالدة تهدئته وبث الأمل فى قلبه، فنجحت جزئيًّا.
فى الليلة التالية، وفى لحظة أخرى أكثر تفاؤلا، عادت أمى إلى محاولتها، فاعتذر لها أبى عن تشاؤمه فى الليلة الماضية. نقلت نقاشها معه إلى عدد الأولاد والبنات الذى يريد، وتطلعاته لمستقبلهم. قالت لنا أمى:
ابتسم أبوكم هذه المرة وقال لى: «الولد الأكبر سيكون قائدًا سياسيًّا يعمل لفلسطين، الثانى أريده طبيبًا يرعى أبناء شعبه ويرعانا فى شيخوختنا، الثالث أريده شيخًا وإمامًا ينصح أبناء شعبنا وينصحنا فى أمور ديننا ودنيانا، وأريد بنات مثقفات وزوجات صالحات، وأخيرًا لا د من ولد «أزعر» شقى يحميهم جميعًا!».

حيلة
عاد العروسان من الإسكندرية إلى القاهرة، ليكتشف الوالد أن ميزانية شهر العسل قد نفدت، وأن الأهل يحتاجون لأسبوع كامل على الأقل لتدبير مبلغ جديد وتوصيله للعروسين فى القاهرة. فكر على شعث فى حل يحفظ ماء وجهه فوصل إلى فكرة ذكية. قال لها لقد تعرفنا حتى الآن على مصر الأثرياء والأجانب، فما رأيكِ أن نتعرف على مصر الأصيلة، مصر الإنسان البسيط ابن الشعب؟ تستمر أمى فى روايتها: أعجبتنى الفكرة جدًّا. عرفنى على شعث على مصر الشعب و«الغلابة»، و«الشعبطة على الترام» وساندوتشات الفول والفلافل فأعجبت بها جدًّا، «فلتحيَ مصر الشعب!».

يافا
فى يافا كانت تصدر أهم صحف فلسطين اليومية، صحيفة فلسطين وصحيفة الدفاع، وكانت هناك الدار العصرية للنشر، وكانت هناك عشرات النوادى الرياضية والثقافية، مثل النادى الأرثوذكسى والنادى الإسلامى.
كان أبوشكرى وأبوعمر زوجا خالتيّ يمتلكان سينما الحمراء. كانت السينما المؤثثة تأثيثًا فاخرًا تعرض الأفلام الجديدة متتالية أيام العيد، وكان لنا «لوج» (مقصورة) مجانى دائم، لذلك كنا نعيش فى السينما أيام العيد. كان الفنان الكبير يوسف وهبى، والفنانة أمينة رزق، وفنانون آخرون يزورون يافا سنويا أثناء عرض سينما الحمراء لأفلامهم الجديدة، كما غنت فيها الفنانة العظيمة أم كلثوم.

المدرسة العامرية
كانت المدرسة العامرية إحدى أهم المدارس فى فلسطين، وقد قادها أبى إلى مزيد من التقدم التعليمى والثقافى (...) وفى العام 1946 تصاعدت المظاهرات فى فلسطين للمطالبة بالاستقلال ووقف الهجرة اليهودية، وكان للمدرسة العامرية النصيب الأوفر فى قيادة المظاهرات. قررت الحكومة البريطانية عقاب المدرسة بطرد بعض طلابها ومعلميها، وتخفيض رتبة المدرسة وموظفيها والخصم العقابى من رواتبهم. اتُّهم والدى بالتحريض بدليل مشاركة ابنه فى هذه المظاهرات، وكان عمرى وقتها 8 سنوات، فعوقب بخفض مرتبته الوظيفية. ثار الوالد وقاتل من أجل مدرسته، ونجح فى وقف إجراءات طرد الطلاب والمعلمين من المدرسة، وبقيت العقوبات الأخرى.
أدى قرار عقاب المدرسة العامرية إلى استقالة الوالد من الحكومة. رُفضت استقالته، فاضطر للذهاب إلى الكشف الطبى وحصل على تقرير يسمح له بطلب الإحالة المبكرة للتقاعد، وكان أحد الأسباب إصابته «بالتراخوما» فى عينيه، وهى التى حرم من البعثة إلى بريطانيا بسببها. كان مصممًا على ترك العمل مع حكومة الانتداب، أيا كانت النتائج. جاءته عروض كثيرة، للعمل، اختار منها البنك العربى. كان البنك فى حاجة لمدير لافتتاح فرعه فى الإسكندرية، وكان ذلك يتطلب أن يمر الوالد بدورة تدريبية فى القدس، فى مركز البنك الرئيسى، لمدة ستة أشهر.

هل سنعود؟
بدأ والدى فى زيارة الأهل والأصدقاء قبل سفره. أخذنى معه لكى نودع الأصدقاء فى القدس والخليل وصفد وحيفا وعكا.. ذهبنا أيضًا لنودع عمتى أم العبد فى القدس، وكانت تعيش مع عائلتها قرب هوسبيس النمسا على طريق الآلام الذى قطعه السيد المسيح حاملًا صليبه مقيدًا بالأصفاد.
وكنا جميعا سعداء نترقب السفر إلى مصر «أم الدنيا»، إلى التجربة الجديدة المرتقبة. كانت الوالدة هى المتفائلة الدائمة: «سنذهب إلى مصر التى كان الوالد يحلم بها ويحبها، والتى قضينا فيها شهر العسل الرائع، وسوف ينجح الوالد فى عمله، ويكبر نبيل وميسون ونهى ونديم. سنعود إلى فلسطين بعد عدة سنوات وعندها ستكون قد تحررت واستقلت. لابد أن تصبح القدس العاصمة، ولذلك سنحتاج إلى بيت جديد مبنى بالحجر القدسى الوردى هناك، وسوف نبنى فلسطين الجديدة الحرة». شاركها الأولاد تفاؤلها، كل من خلال أحلامه وعمره وتجربته.
الوالد وحده كان قلقًا على فلسطين. ثمة سؤال كان يعتصر فؤاده: «ترى هل سنعود إليها يوما أعزاء وهى حرة عزيزة؟ وهل سيكون لأولادى وطن؟».
لم يعد على شعث إلى غزة أبدًا بعد ذلك اليوم، وتوفى بعد حرب 1967 التى سميت بالنكسة، بل وبسببها، فى الإسكندرية.

فى الحلقة الثانية

على ضفاف الإسكندرية
زيارة ياسر عرفات الأولى إلى منزلنا فى مصر



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك