تواصل "الشروق" على مدار شهر مارس، تذكير قرائها بنخبة مختارة من الأغاني والقصائد الوطنية التي أنتجتها عقول شعراء وفناني مصر الرواد، بالتزامن مع ثورة 1919 أو تفاعلاً معها أو مواكبة لمطالبها وشعاراتها، بهدف إلقاء الضوء على أشكال مختلفة من إبداعنا منذ 100 عام ورصد الآثار الكبيرة للثورة على الفن والأدب في مصر.
******************
إذا كان الزعيم الوطني الكبير سعد زغلول هو المحرك السياسي الأبرز لثورة 1919، فإن فنان الشعب سيد درويش هو المحرك الأبرز لفن الثورة، فمن ناحية التأثير كانت ألحانه -منذ ما قبل اندلاع المظاهرات في مارس- تحث المصريين على السعي لانتزاع استقلالهم وتحولت بعض كلمات أغانيه إلى شعارات سياسية حية حتى الآن، ومن ناحية التأثر كان هو دائماً أول المستجيبين لنبض الشوارع والميادين، فكان برفقة الشعراء الذين تعاون معهم وعلى رأسهم بديع خيري ومحمد يونس القاضي يلتقطون الهتافات العفوية ويحولونها إلى أغاني وأناشيد لتؤدى في المسارح وتسجل في الاسطوانات لتخلد بأصوات ذلك العصر.
لذلك فلا عجب ونحن في الحلقة الثالثة من سلسلة "وطنيات ثورة1919" مازلنا ننهل من الإبداعات الحصرية لسيد درويش.
نسترجع اليوم أغنية شهيرة هي طقطوقة "يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح" التي غنتها المطربة نعيمة المصرية (1894-1976) وهي -كما ذكرنا بالأمس عند عرض أغنية "خد البزة واسكت"- مطربة شهيرة في عصرها اتسمت بصوت قوي مميز، وأصبحت فيما بعد من ضحايا الظهور التاريخي لكوكب الشرق أم كلثوم التي أثرت بالسلب على شعبية غيرها من المطربات وعلى رأسهم "سلطانة الطرب" منيرة المهدية.
نعيمة المصرية كانت على ما يبدو من الأصوات المفضلة لسيد درويش، والدليل كم الألحان التي منحها إياها سواء العاطفية أو الوطنية أو الاجتماعية، وله في ذلك كل الحق، فأداؤها تغلب عليه المحليّة والحرارة والعفوية، وصوتها يتمتع بالمميزات التي كانت ترنو إليها أي مطربة في ذلك العصر من رقة وقوة و"بحّة" مميزة، فضلاً عن تمتعه بشخصية مستقلة عن منافساتها، من السهل تمييزه على الاسطوانات المسجلة قبل أكثر من 100 عام.
خلاف حول تاريخ الأغنية
كلمات الأغنية تحمل تورية مجازية، تكاد من مباشرتها وصراحتها، بهدفها الرئيسي وهو التغني بالزعيم الأوحد لمصر سعد زغلول، والسخرية المصرية الأصيلة من محاولة الإنجليز قمع أنصار سعد ومنعهم من ترديد اسمه في هتافاتهم بالمظاهرات.
الكاتب (غير المعروف والذي لن يخرج عن الثنائي بديع خيري ويونس القاضي) تلقف مطلعاً فلكلورياً شهيراً لباعة البلح "يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح" وصاغ سيد درويش اللحن على مقام جهاركاه، وهو جزء من مقام العجم المميز، الذي كان يحب سيد درويش استخدامه كثيراً لتميزه عن باقي المقامات السائد استخدامها في موسيقى بداية القرن العشرين.
ويتبين من الكلمات أنها تدور حول استدعاء الشعب لسعد زغلول وافتقاده وهو في المنفى:
يا زرع بلدي.. عليك يا وعدي
يا بخت سعدي.. زغلول يا بلح
..................
عليك أنادي.. في كل نادي
إنت مرادي.. زغلول يا بلح
..................
يا روح بلادك.. لو طال بعادك
نقاوة ولادك.. زغلول يا رطب
ويدل هذا على أن الأغنية أنتجت في فترة كان سعد زغلول فيها منفياً خارج مصر.. وهنا تظهر روايتان يمكن تحليلهما:
الأولى تعتمدها موسوعة أعلام الموسيقى العربية الصادرة عن مكتبة الإسكندرية وطبعاها دار الشروق عام 2003 وهي: أن الأغنية سجلت عام 1919.. وهذا يعني بالضرورة أنها سجلت في الفترة من القبض على سعد وصحبه ونفيهم إلى مالطا في 8 مارس، وصدور قرار إطلاق سراحهم وعودتهم لمصر في 7 أبريل.
أما الرواية الثانية فهي أن الأغنية سجلت عام 1921.. وهذا يعني أنها سجلت بعد نفي سعد وصحبه إلى جزيرة سيشل في 21 ديسمبر بعد فشل مفاوضات مصر وبريطانيا.
الدلالات الفنية للأغنية
بعيداً عن السياسة تحمل هذه الأغنية عدة دلالات ومفارقات.
إذا اعتددنا بأن الأغنية أنتجت عام 1919 فهي واحدة من 85 لحناً قدمها سيد درويش في عام الثورة، الذي يعتبر الأغزر إنتاجاً في مسيرته الفنية.
كما أنها من قالب "الطقطوقة" ذي الخصائص البسيطة والمصرية الأصيلة (مذهب يردده المطرب مع الفرقة أو المذهبجية ومجموعة أغصان أو كوبليهات) والذي يمثل أكثر من 30% من إنتاجه.
وهي أيضاً من مقام "العجم" الذي قدم به سيد درويش أكثر من 23% من إنتاجه*
ولذلك.. يمكن اعتبار هذه الأغنية ممثلة لقطاع عرضي تلقائي من إنتاج مبدع غير وجه الموسيقى في مصر.
* الأرقام من مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي بمكتبة الإسكندرية-المشروع القومي للحفاظ على تراث الموسيقة العربية.
وغداً حلقة جديدة........